نادراً ما شهد العالم إرهاباً مُروّعاً كالذي مارسه “تنظيم الدولة” (داعش)، الذي قدّم أداءً ذا مستوى عالٍ من الوحشية، لم يقلَّ عن الهمجية. عندما ننظر إليه من مواقعنا، يبدو كأنّه تفصلنا عنه عدّة ألفيات تعود به إلى العهد البدائي، وربّما لم يكن بهذه القسوة والفتك. وسيُخيَّل إلينا، كي نفهم ما أقدم عليه، أنّهم مجموعة من البشر يحمل معتنقوها أفكاراً لاعقلانية، تخلو من المنطق، مجرّد مجرمين دمويّين، تفتقد قلوبهم للرحمة، حمقى وأغبياء ينقادون لزعماء يسيطرون على عقولهم، ربّما كان بعضهم فقراء أعماهم الجوع، انتفضوا على أوضاعهم، وطلبوا العدالة بحدّ الساطور.
عموماً، كشيء يجمع بينهم، فهو مستوى الذكاء المتدنّي. أمّا القلّة الذين لديهم بعض العقل، فقد تعرّضوا إلى غسيل دماغ، جعل منهم بشراً مسيَّرين يرتكبون أعمالاً متطرّفة جدّاً، يصحّ أن يُقال فيها إنهّا جنونية، تُنفَّذ تحت غطاء ديني، وهي ليست من الدين بشيء.
تلك بعض التصوّرات النمطية الأقرب إلى “داعش” وأمثالها، تحاول أجهزة الإعلام الغربية والعربية ترويجها، ولا تجعلنا نبحث عن حلّ لهؤلاء المارقين إلّا بإبادتهم التي تبدو مشروعة، فالإنسانية مدعوَّة للتخلّص منهم دفاعاً عن نفسها. هذه حُجّة العالم، ولو كانت الدول الديمقراطية تمتنع عن قتلهم، وإن كان في سجونها، لكنّها ترفض عودتهم إلى بلدانهم الحائزين على جنسياتها، أمّا لو كان لها قصفهم بالجملة سواء بالصواريخ أو بالكيماوي فلن تتأخّر، المهمّ في سياق حرب.
عقلنة العالم لم تُلغِ الدّين ومعتقدات البشر
هذا التنميط لن يصمد، سيصيبه التصدّع لو حاولنا تأمُّله، لن نحصره بـ “داعش”، سنطاول هؤلاء الذين لم يتردّدوا أحياناً في مجاراتها والتفوّق عليها، لكن “داعش” المثال الأبرز، ستُفاجئنا بأنّ قادتها وعناصرها ليسوا أغبياء ولا حمقى، بل أذكياء استطاعوا خلال فترة محدودة من الإعلان عن وجودهم الاستيلاء على مساحات واسعة من دولتَين؛ العراق وسورية. أقاموا عليها “دولة الخلافة”، ليس الحظّ ولا المصادفة سمحت لهؤلاء اللاعقلانيّين بإدارة عمليات أثبت العلم العسكري نجاحها وكانت مثالاً ليس في المنطقة، بل في العالم، على البراعة في التخطيط والإستراتيجية والتكتيك والمناورة والمهارة في التأمين اللوجستي.
أمّا حول الادّعاء بأنّهم نتاج بيئات هامشية فقيرة، لم يستوعبوا بعدُ قيَم العالَم، فقد ثبت أنّ أغلبهم من بيئات متوسّطة الدخل، يعيشون بشكل معقول، مجتهدون في أعمالهم، ولا يرغبون برفع سويتهم الاجتماعية إلّا بالحلال، ومنهم أصحاب ثروات، ويحملون شهادات علمية. صحيحٌ أنّهم يُطالبون بالعدالة، لكن بالاسترشاد بالدين. أمّا التطرّف في تحقيق أهدافهم، فهو مواجهة العالَم باللغة التي يزعمون أنّ العالم لا يفهم إلّا بها، فالوسائل ولو اختلفت فهي متوافقة على القتل، فإذا كانت الطائرات تحصد المئات، وتُخفي وسائل الإعلام أشلاءهم، يعتقد المتطرّفون أنّ الإعلان عمّا يرتكبونه من مجازر أفصحُ تعبيراً عن أصرارهم على أهدافهم.
من هنا نفهم بلاغة قطع رأس إنسان أمام الكاميرات، هذا الذي يوقع الرعب في قلوبنا. إنّهم يريدون إرهابنا، فالإرهاب للردع. أمّا ما يُذكَر عن الحوريات، وما يَحفّ به من سخرية، فليس دافعاً يُؤخذ به، أمّا دلالته فهو أنّ الجزاء في الآخرة أكبر ممّا يتوقّعه الخيال، جنان وأنهار من عسل ولبن… إلخ. وعندما اختلق الإعلام قصّة جهاد النكاح، كذّبها مجيء “الجهاديّين” مع زوجاتهم وأولادهم. أمّا السبايا فكانت عملاً إرهابياً محضاً. ماذا يقال في بيع بنات ونساء سوى أنّه عمل مروّع، يتساوى مع قطع الرؤوس على الملأ، لذلك يُمارَس في ساحة عامّة. لا يردع الإرهابُ صاحبه عن أيّ فعل، وهو من اجتهادات العقل الإجرامي نفسه الذي يصنع الحروب في العالَم. كما يفعل رئيس جمهورية أو رئيس وزراء، عندما يتّخذ قراراً بشنّ حرب، بناء على ادعاءات كاذبة، وفي حرب العراق دليل.
وراء “داعش” يكمن الإسلام السياسي، وهو كأيّ عقيدة أو نسق فكري، أو أيديولوجية، ظهر رغم هيمنة الأيديولوجيات الكبرى على العالم، وكان للتنصّل منها والردّ عليها، قويت شوكته بعد انهيارها، لم يُقيَّض لها البقاء إلى الأبد، طالما أن الأيديولوجيات محدَّدة بزمانها وظروفها التي تستدعيها، إنها حاجة، أحياناً تنحرف عمّا يصبو إليها صانعوها، أو يشتطّون بها، فلا أيديولوجية حقّقت أحلامها. أمّا الأيديولوجيات الدينية، فلديها مَعين لا ينضب هو الدين؛ طاقتها على الاستمرار وعلى الظهور والغياب والتجدّد غير محدودة، تتوارثها أجيال بعد أجيال، طالما الطغيان والظلم واللاعدالة تتوارثها أجيال بعد أجيال.
أشدُّ ما تخشاه السلطات هو الإسلام بطبعته الإسلاموية. الدين يمكن استغلاله، وهو الوحيد في هذا العالم الذي لا تخبو تطلّعاته، إنّه توقٌ إلى تحقيق ما تتقصّد الحكومات حرمان شعوبها منه. إنّ إخراج الدين من هذه المعادلة، وتحييده، في احترام حقوق الانسان، وتأمين الحدّ المعقول من العيش الكريم، مع قدر من العدالة لا غنى عنه، وليس الأمر بالمستحيل. عندئذ لن يغادر الدين جدران المساجد، مثلما في الغرب لم يعد يغادر جدران الكنائس، إنّه قارّ في الأرواح.
أما الزعم أنّ الدين من أسباب تأخُّرنا، فليس ما يمنع أن يكون وازعاً للتقدّم كما للتأخُّر. ومثلما الإرهابُ يستغلّه، لا تُقصّر الحكومات في سعيها إلى احتكاره والهيمنة عليه، وتأويله لحساب دكتاتوريات مقَنَّعة أو مكشوفة.
فإذا كانت الخشية من الإسلاموية قائمة، ويعوَّل على القضاء عليها، لكن أسباب توالدها متوافرة، وليس إلى انتهاء. هذا المرض ليس أعراضاً، بلا أسباب، فلا نتعامى عنها. وإذا كانت حركات التنوير في العالم، قد سعت إلى عقلنة العالم، لكن نجاحها لم يؤدّ إلى إلغاء الدين ولا القضاء على معتقدات يؤمن بها البشر.
-
المصدر :
- العربي الجديد