وجد مروّجو الشائعات في الكورونا خزّاناً لا ينضب من الأخبار الزائفة، ولا يُشترَط في من يعملون على ابتكارها وتسويقها التخصُّص في الدعاية. غير أنها اكتست بمناسبة الكورونا انتشاراً عالمياً بسبب عالمية الوباء، وضمّت علماء وأطبّاء وفلاسفة فاتهم القطار، ولا يريدون النزول عن وسائل الإعلام، ففي التواجد على شاشاتها غواية، وجذبُ الأنظار إليهم يستلزم تحليلات صادمة، والتنبّؤ بتوقُّعات كارثية، يدور أغلبها حول إثارة المخاوف.

وكذلك رجال دين يتشاركون مع من سبقهم في جذب الأنظار إليهم، فيبتدعون من جراب الحاوي ما يعنّ لهم من رؤىً، فيُبشّرون بقدوم المهدي، ويتعسّفون في الربط بين الماضي والحاضر، فيُصبح الوباء مقدَّراً علينا، ومكتوباً في صحائف الأقدمين، غضبا من الله على البشر، ومثلما تجرّأوا على الفتوى، تجرّأوا على الطب، ووصفوا علاجات ألصق منها بالدجل. وتشارَك رجال من الأديان الثلاثة، واتّفقوا على صياغة موحَّدة مضادّة للحظر الصحّي، فأصبح الفيروس لا يصيب المؤمنين طاهري السريرة، وإذا أصابهم فلأنّهم ليسوا مؤمنين، ولا طاهري السريرة.

وكان أيضاً للمهووسين بالنظافة نصيبٌ لا بأس به في مقارعة الفيروس، فتمتّعوا بممارسة وساوسهم، وتنشيط نوازعهم التشاؤمية، وحذّروا منه، فنشروه في كل مكان، وفي كلّ ما تمسّه الأنفاس وتقع عليه الأبصار. يؤازرهم مرضى نفسيون مصابون بالبارانويا والعصاب القهري، لا تفيد مخاوفهم إلّا في تعميم الكآبة. أمّا المتفائلون، فبشّروا بنهاية التاريخ وبداية العصر السعيد، لكن بعد إفناء البشرية، وظهور أجناس جديدة. بينما قادة دول يروّجون لفكرة المؤامرة الصينية.

” الرجاء ألّا تكون العودة إلى الأخلاق عن طريق الترّهات”

فلنتصور أن هؤلاء وأمثالهم يظهرون في وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، ليجدوا مرتعاً ثراً، يقدمون فيه نصائحهم على أنهم فاعلو خير… أي أنهم الأخيار في مواجهة الشرير “كورونا”. فلا غرابة في أن العلم يتراجع، والخرافة تتقدم، في الوقت الذي نحن فيه بحاجة إلى العلم.

لذلك نصح علماء نفس الجماهير البشرَ المحبوسين في بيوتهم بدواعي الحظر الصحي والتباعد الاجتماعي، أن يعزلوا أنفسهم أيضاً عن أخبار “الكورونا”، وعدم التسلية بإحصاء أعداد الموتى، وأن يقرأوا روايات خواتمها سعيدة، وألّا يقربوا رواية “الطاعون” لألبير كامو، أو كتب التاريخ التي تتحدّث عن الأوبئة مثل الكوليرا والتيفوس والإنفلونزا الإسبانية والفيروسات بأنواعها، كذلك كلُّ ما له علاقة بالموت الأسود.

المشكلة أنَّ ما يَنصح به علماء النفس لا يؤمن بقدرة الإنسان على التمييز، ولا يسمح له بأن يتعلّم، ما دام أنهم يخشون من “طاعون” كامو. وهي وقاية مصطنعة، بينما هي تجربة إنسانية، نحن بحاجة إلى التأمّل فيها، ينبغي ألّا يخاف منها العلماء قبل العوام.

أغلب الأخبار كانت كاذبة، روّجتها جهات حاولت الاستفادة منها، أو الكيد بها، أحياناً بنوايا دينية طيّبة، ولو كانت زوراً وبهتاناً، أو سياسية غير طيّبة، فعلى سبيل المثال، لم يُسقط من يدَي الرئيس الإيطالي، ويدع العلاج للسماء، بعدما أخفق الطب، ولم يخرج سكّان إيطاليا لوداع العالم، أو يعتنقوا الإسلام، أو ما قيل عن تبرّع المافيا الإيطالية بسبعة مليارات دولار لإنقاذ بلدهم من براثن كورونا، أو يصرّح مصمّم الأزياء آرماني بأنه سيتبرّع بثروته كلّها، ولن يترك إيطاليا تُدفَن… هذا من إيطاليا وحدها، وهكذا بوسعنا تصوُّر حجم ما يصدر عن بلاد العالم الأخرى، وكلّ دولة بحجم مصيبتها، وما يروّجه عشّاقها وخصومها عنها، فالشائعات تسير على خطوط متوازية، للترويح عن النفس، أو لبثّ الأمل، أو الدفع إلى اليأس، أو التعلّق بمعجزة إلهية.

أفضل ما نفعله هو الكفُّ عن سماع هذا اللغط، فالكورونا مهما انتشرت، ستنسحب، ومهما قتلت، سيبقى أحياء، ولنفكّر بما ستخلّفه وراءها، وما تمليه على البشر، فالمستقبل يطرح مسائل ملحّة باتت عالمية، على رأسها تعميم الرعاية الصحية للجميع، وأيضاً ما سوف تثيره من أزمات معيشية، هل تترك القرارات الاقتصادية المصيرية لحركة الأسواق الحرّة؟ أمّا البيئة، فالتفكير جدياً في ما سيؤول إليه العالم في ظل الاستغلال الجشع واللامسؤول للطبيعة، ألن يعجّل بتدمير كوكب الأرض وتحويله إلى أرض جرداء؟ أخيراً وليس آخراً، الرجاء بألّا تكون العودة إلى الأخلاق والقيم الدينية عن طريق الترّهات.

ولا يخلو “كورونا” من جانب إيجابي، قد يتجلّى في إدراك المسؤولية الأخلاقية تجاه أنفسنا والعائلة والآخرين، وأن العالم واحد، والعلاج واحد، وأيضاً إدراكُ أنَّ ما يجب التمتُّع به من حريات مسؤولة يُلغي مشروعية أيّ سلطة لا يكون هدفها صالح الإنسان، وليس السيطرة عليه.
قد يكون في هذا الطرح طموحٌ إلى تغيير يمكن أن نحلم به، ولا نتوقّع تحقيقه، لكن ومهما يكن، يصحّ التفكير فيه.