العالَم الجديد، عالمٌ أخذت “النخبةُ” على عاتقها إعادة صياغته على أكثر من نحو، تُعيد تشكيل تحالفاته وعداواته، ونحن نشارك به، ليس بالكامل ولا بالتفاصيل، وإنّما بالعدوى، فتأثيره فينا لا يفتر، وإن كنّا نُقاوِم، رغم أنّنا نسير على وقع خطاه. أمّا ماذا يكون هذا العالم؟

عالم لا يحتوي على الطبقات التقليدية، من عمّال وفلّاحين وأشباههم من الكادحين المتوافرين لدينا بأشكالهم القديمة والمحرومين أيضاً من الحريات، وكأنّ الثورات الفرنسية والبلشفية لم تسعفهم ببعض الحقوق، مازالوا يرسفون في أغلالهم، فقدوا الأمل بالثورة، بعدما جرّبوها في الربيع العربي، وهُزمت شرّ هزيمة، فعادوا يحلمون بها، بينما في العالم الآخر، قد قضي على العمّال، بعدما لبسوا الياقات البيضاء، وانتعلوا أبواط نايك الرياضية، من دون الظفر من الرياضة إلّا بتشجيع لاعبي كرة القدم.

أمّا لماذا سنُطلق عليه “عالَم النخبة”، فلأنّ القائمين عليه نخبةٌ من رجال الأعمال الأثرياء جدّاً والأذكياء جدّاً، يديرون شركات عملاقة عابرة للقارّات والمحيطات، تتمدّد في أرجاء الكوكب، ويطمحون في ما بعد إلى الكواكب الأُخرى، إلى جانبهم علماء يديرون مراكز أبحاث لتصدير الأوبئة، ومصانع سرية لتطوير الأسلحة الفتّاكة، والعمل على تسويق الذكاء الاصطناعي والاستغناء عن الذكاء الطبيعي، وقادة عسكريّون يقودون جيوشاً للقتل بالجملة، وبنوك مفلسة لنهب الأموال، وبنوك لإفقار الناس بالديون، وأجهزة أمنية مجهَّزة بعملاء ووشاة وأجهزة تنصُّت وكاميرات وأدوات تعذيب… وطبعاً في الواجهة رؤساء لزوم صرعة الانتخابات والديمقراطية.

عدا هذه “النخبة”، هناك مليارات من البشر تُجرى عليها تجارب تحسين النوع بعد تخليصها من الشوائب، شوائب ربّما كانت شعوباً أو أعراقاً، وحمَلة أديان، بالجملة من دون تفريق بين المذاهب… وهذا عائدٌ تقديرُه لمراكز ابحاث محايدة بلا دين.

هل نسمع الصوت الذي سيصدح عن الذين لا صوت لهم؟

من المبالغة القول إنّه قُضي على العمّال والفلّاحين نهائياً. هذا بدأ العمل عليه من قبلُ ضمن خطّة طويلة الأمد، بدأت قبل نحو قرن تقريباً، كانت بإسكاتهم بالأدوات الكهربائية والعُطل والأفلام السينمائية، نجحت بجعلهم يتسمّرون أمام الشاشات لمتابعة مسلسلات تدوم عاماً وراء عام، وترهقهم بملاحقة الأخبار على التلفزيون، ليست السياسية فقط، بل عن الضرائب والتضخّم وارتفاع الأسعار وحركة البورصة، يجب ألّا يفوتهم شيء، يتجرّعونه بالتدريج مع ملئ الفراغ مؤخّراً بالخوض في وسائل التواصل بأنواعها، حتى بات التواصل يُغني عن التفكير بطرح أفكار جاهزة ورائعة عن الحب الحرية والمثلية والجندر والنسوية، تجد تطبيقاتها من مخزون العلاقات الإنسانية السرية… إنّه عالم بلا قلاقل سياسية ولا نزاعات جنسية.

هذه العملية لم تشارف على النجاح إلّا بعد الاستعانة بقلاقل أُخرى جرى العمل عليها من خلال الاستعباد اللطيف للبشر، بتحويلهم إلى مستهلكين شرهين وملاحقتهم بالفواتير. فأصبح القتل من أجل المال الطريقة الوحيدة لتسديد الديون. أمّا عن افقاد البشر لإنسانيتهم، فجرى تعويضها بتوافرها في الأفلام على الشاشات، ومثلما واظبت الأجيال، جيلاً عقب جيل، بدايةً مع ظهور السينما، على استعادة المشاعر العاطفية بالوقوع في غرام الممثّلين والممثّلات على الشاشة الذهبية، وذلك بالذهاب إلى الصالات السينمائية، كطقس أسبوعي عوضاً عن الكنائس والمساجد، حتى باتت الصالة في العتمة أشبه بمكان مقدَّس طوال ساعتين. ثم توفيراً للوقت، مع ظهور التلفزيون، انتقل الغرام إلى الشاشة الفضية، ما وفّر مزايا إضافية أفضل. باتت المشاهَدة ضمن المنزل، والاضطجاع على صوفا مريحة، وتناوُل المأكولات والمشروبات والتدخين والكلام، فتسمّر أكثرُ من جيل أمام الشاشة الصغيرة، قبل أن تصبح كبيرة، أُطلق عليهم بالجملة: جيل التلفزيون.

أثبتت الإحصاءات تفوُّق الشاشة الفضّية، فمتابِعو الأفلام على الشاشة الذهبية باتوا لا يزيدون عن الخمسة بالمئة، بينما الفضية بات متابعوها ثلاثةً وتسعين بالمئة. أمّا الأجيال اللاحقة، فسوف يتسمّرون أمام شاشة اللابتوب، ربما عشر ساعات وأكثر، سيصبح للعمل والتسلية والمحادثة والحبّ ومصدرَ المعلومات والمعرفة.

بينما خارج الشاشات، لا بدّ من المغامرة للخروج من فردوسنا الافتراضي الآمن، الكاميرات ترصد كلّ حركة نتحرّكها بالتعاون مع هواتفنا المحمولة، تُسجّل محادثاتنا وتُحلّلها بحثاً عن أيّة شبهة تديننا، ما قد يؤدّي إلى الاختفاء من الوجود، ورغم ذلك كلّه، الجميع يشعر بالرضا، إنّه الشعور بالأمان، إنّه الاستقرار، الذي ربما لم يتحقّق إلّا في الزمن السوري طوال نصف قرن، المثال الأقوى مفعولاً من كلّ هذه الآلات والأدوات.

لماذا العالم في تقدُّم من طور إلى طور؟ إنه من صناعة “النخبة”. وليس جديداً، تنبّأت به ظواهر العولمة من خلال سيطرة الشاشات، وتحكُّم الإعلان بالعقول، والإعلام بالحروب، والأوبئة بالوفيات، وانتشار أدوات التواصل الاجتماعي، التي لا تقول شيئاً سوى الثرثرة.

هل نسمع الصوت الذي سيصدح عن الذين لا صوت لهم في مواجهة تغوّل “النخبة”؟