باتت اللغة الأخلاقية التي يتكلّم بها الكثير من الناس لغةً غريبة على أسماع المثقّفين. فنحن في زمن ليبرالي، كما أننا في عالم أخذ يتخفّف من التعاليم المفروغ منها، تلك التي تبدو وكأنها منزّلة. عالم يناقش الأخلاق أيضاً، ويستخفّ بها، ويسعى لأن يفهم من جديد ما كان يتكلّم عنه من دون تدقيق، أي أن الأخلاق بحاجة إلى إعادة نظر. والواضح أن الثقافة خلخلت هذه المفاهيم، خاصّة أننا ورثناها. حان الأوان لصناعة غيرها.
ما معنى الكلام عن الأخلاق الفاضلة، والخصال الحسنة، وربما الحشمة والأمانة والنزاهة أو الصدق؟ تبدو كأنها قادمة من عصر رحل عنّا منذ زمن بعيد، إنْ لم نقل من كوكب آخر، وهذا الكوكب يقبع في الماضي، بينما نحن الآن في الحاضر، وأبصارنا متّجهة نحو المستقبل.
الاتّجاه الحداثوي ــ كما فُهم، أو كما أريد فهمه ــ واقعٌ تحت تأثير العدمية وتحلُّل المفاهيم، ومنها الأخلاق؛ لا يجد مَن يتبعه في الفضيلة سوى عدم قدرة الإنسان على ممارسة الرذيلة؛ وأنْ يكون متسامحاً مع الآخرين أو الرأي الآخر، ليس تكرُّماً منه ولا هي أعطية. أمّا الشفقة، فتنمّ عن أنه بحاجة إليها، وما شفقته على غيره إلّا لأنه يتوسّل شفقة الآخرين عليه. وأن يكون إنساناً طيّباً، فهذا من الضعف، لأنه لو كان قوياً، فلا حاجة حينها ليكون إنساناً طيباً. وما كونه صادقاً إلّا لخوفه من انكشاف حقيقته.
الخلاصة: الأخلاق ليست أخلاقاً كما كنا نفهمها، وإنما لأنّنا مضطرون لنكون هكذا. فالعطاء ليس كرماً منّا، وإنما لأننا نشعر بالرضا عن أنفسنا. هذا الكرم هو أنانية لا نُجزى عليها بالمجمل، وليس وازعاً شخصياً.
تقطُّع أواصر الأخلاق يعني بالضرورة فقدان التفاهم بيننا
ما يحيلنا إلى أن اللغة الأخلاقية غير أخلاقية، بل ذريعة للكذب على الآخرين، ومحاولة لإقناع أنفسنا بأننا بشرٌ اخلاقيون… بينما في جوهرها لا تحمل هذا المعنى، وهي بمعناها الحقيقي هلامية، لا تقول شيئاً حقيقياً بالفعل، وفي جوهرها معانٍ تافهة وسخيفة. بالتالي، بوسعنا إزاء انكشاف هذه اللغة، إدراك ما تحمله من متناقضات يصعب التسليم بها، خاصّة أنها متعدّدة الوجوه، بحسب الأشخاص، بل والمنفعة، ما يؤدّي إلى تعدّد وجهات النظر بخصوصها. وإذا كان ثمة اتفاق حول لامعناها المطلق، فلا تعدو المثابرة عليها سوى استمراء الخطأ في فهم العالم والحياة، عدا أنه ــ وهو الأهم ــ قيودٌ على حرّياتنا، ما يختلق تابوهات، ويشكّل فوبيات تلجم إراداتنا ورغباتنا، ويمكن التغلُّب عليها في حال أدركنا كُنهها، ويمكن تجاهلها مع القليل من الشجاعة، والكثير من استقلالية الرأي.
وفقاً لهذا التحديث، فإنه من العبث الحديث عن الأخلاق، أو عن أشخاص فاضلين وكرماء أو بشر يتحلّون بالنزاهة والأمانة، أو حتى مجرمين ولصوص. إذاً، هل يجوز الزعم بأن الذين يفكّرون على هذه الشاكلة هم أشخاص خارج الأخلاق، ما دام أنهم أقصوها عن تفكيرهم، ولا يأخذون بها؟
بالمقابل، ما نزعمه نحن، هو أنهم مهما بالغوا، فليس بوسعهم رفضها بالمطلق، وإنما التعبير عن شكوكهم فيها إلى درجة لا تبلغ اليقين المطلق. لماذا؟ لأن الأخلاق تشكّل الشبكة الأساسية في أي مجتمع نعيش فيه، ونتواصل من خلالها مع الآخرين. إن تحطيم هذه الأواصر وعدم الاعتراف بها يعني فقدان التفاهم بيننا، فنحن نتعامل رغماً عنّا ضمن هذه الشبكة الأخلاقية، سواء كانت ظاهرة أو مضمرة.
إنّ كونَنا لا أخلاقيين يضعنا في حالة من الانعزال عن مجتمعنا. في الواقع، لا يمكن إدراك قيمة التفاهمات الأخلاقية وجدواها إلّا في حال فقدانها، ما يمنع التواصل بيننا؛ إذ لا مبادئ مشتركة، لا مُثُل، لا أمنيات، لا ثقة متبادلة، لا مودّة، لا اعتقاد بالضمير، ولا عرفان بالجميل… إنها مجموعة من الأخلاق نتشارك فيها مع الوسط الخارجي. فالأخلاق – شئنا أو لم نشأ – قاعدة يبنى عليها التفاهم المشترك، أي هناك ما يجمعنا مع الآخر.
مهما بلغت اللاأخلاقية، فإن أصحابها لا يستطيعون الخروج عن الوسط الذي يعيشون فيه، حتى لو استمدّوا منه معايير مختلفة عن معايير الآخرين. إن التباين معهم غالباً يأخذ أكبر من حجمه، والكثير من الوهم الذي يندحر على أرض الواقع؛ لكن مهما كان الاختلاف في المعايير، فهو بسيط، ولا يخلو من حيوية، ويجعل من المراجعة والتغيير والتطوّر أمراً ممكناً، وإن سبّب تشويشاً، لكنّه يثير أيضاً تساؤلات عميقة، وهو الأجدى.
-
المصدر :
- العربي الجديد