كان للتفاعل بين الأجناس الأدبية والفنية، إيجابيات لا تنكر، أسهمت في تقريب التباينات بينها، مع المحافظة على تميزها، ما سهل التحلل من قواعد صارمة ومعايير دقيقة، كانت قد شكلت حواجز وهمية، لم تكن واهية. أدى تداخلها إلى اختراق مناعات كان الأدب يتحصّن بها. تبادل التأثر والتأثير، والتفاعل بينها عاد بالفوائد عليها جميعاً، لاسيما الرواية والسينما. بينما لم تستفد منها الأجناس الأخرى، إلا بشكل محدود.
يستخلص من هذا التفاعل، أنه لا يمكن لأي شكل أدبي أو فني أن يتخذ شكل جنس منفصل عن غيره من دون معايير تحكمه. ولا يخشى عليه من الاعتصام بخصائصه النوعية، طالما تسمح بحسب طبيعتها المتطلبة للتجديد، اختراقها والتخفيف من تصلبها، وإلا فقدت حيويتها وأصابتها بالجمود. تتيح الآفاق المفتوحة لأي جنس بالضرورة، سبل المغامرة والتجريب، ولو كان في المجهول الذي لابد منه ليبقى الأدب على قيد الازدهار لا الانتاج فقط.
لا يمكن أن يقدم جنس لآخر خدمة كبيرة، وإلا أخرجه عن ماهيته. ففي السينما ما زالت الصورة، هي الأساس لهذا الفن. ومع أن القصة كانت دخيلة عليها، اتكأت إليها في بداياتها، كمسوغ لتحريك الكاميرا من مكان لآخر، والخوض في الواقع، بخلاف ثبات خشبة المسرح، المحكوم بالأبعاد الثلاثة. ما أدى إلى الاعتماد على القصة بشكل رئيسي، على الرغم من انحياز غالبية فناني السينما في ذلك الوقت لمقولة: الصورة أولاً وأخيراً، لكن القصة لم تفقد مركزيتها، بل وأضاف النطق والحوار مشروعية آزرت القصة كعنصر أساسي، لا يستغنى عنه في السينما، افتقاده يحيلها إلى صور متحركة.
بالرجوع إلى تاريخ الرواية، نجد أن تأثير الأجناس الأدبية والفنية من شعر ومسرح وسينما، لم تمنح الرواية شكلاً آخر، ولم تطورها، وإن جعلتها أكثر ليونة ورحابة. وما أخذته الرواية منها استوعبته وأصبح جزءاً من أدواتها ونسيجها، يمت للرواية لا للجنس الذي أخذت عنه. ومن جانب آخر عندما استغلت الشعر بشكل كبير، أغرقت نفسها فيه، وأصيبت بالضرر، بهيمنته عليها، ما أوقع الرواية في حالة مائعة، كانت تشويهاً لها، بافتقار الرواية إلى بنيتها الأساسية ووسائلها الفعلية: السرد والشخصيات والحبكة… الخ، والأهم الواقعية. كانت مديونيتها خاسرة للشعر، فإذا كانت الرواية ستصبح شعراً، فلماذا الرواية. ما ينطبق على الشعر أيضاً، إذا كان الشعر سيروي قصة على حساب جوهره، فلماذا الشعر؟
لا يمكن للرواية ولا للشعر أن يجترحا مغامرة انقلابية أو شكلانية إلا باعتماد كل منهما على قدراته الخاصة، المتغيرات الحقيقية تأتي من الداخل، وليس من الخارج، وإن كان الخارج عامل تحريض، ودافع إلى نشدان التطور.
تحت هذه العناوين، نشأت أشكال هجينة، لم تعمر طويلاً، كانت تجارب أقلقت المجال الثقافي بين فترة وأخرى، المثير فيها أنها أحدثت خلخلة، ولو كانت تجديدات زائفة.منذ نحو عقدين جرت محاولات على هذا النمط تحت عنوان: النص المفتوح، وكان مفتوحاً على كل شيء، أخفق ولم يحصد ما يسمح له بالدوام، ولو على الهامش، وبقي مثالاً على الهوس بالنص واللغة، وما يمكن أن يختزناه من فوضى، أكانت سطحية أو عميقة، لم يقدم للأدب شيئاً ذي بال، وإن سجل محاولات وتدريبات انصبت في المحصلة على لا شيء. كانت رغم إقدامها الجسور والطائش، لم تدفع النقاد إلى تأييد فكرة التخلص من تعيين الجنس الأدبي لصالح نص بلا هوية. ربما في عقود قادمة، تتجدّد هذه الدعوة، إذ لا شيء يموت، لاسيما الصرعات، لديها أكثر من حياة.
في التعامل بين الأجناس، ليس هناك نقاء، وأيضاً لا هيمنة.
-
المصدر :
- المدن