تستدعي غزة، اليوم، قدراً بالغاً من الألم والتساؤلات الممضّة، كأن الموت هو المهيمن على بلاد العرب، مع كل محاولةٍ للخروج من العسف إلى الحرية، ضريبة لا بد من دفعها، ولو كان لمجرد التفكير فيها، أو التجرؤ على الخروج إلى الشارع، والمطالبة بما ينكره عليهم المحتلون والطغاة، فكيف يكون الأمر لو أنهم حملوا السلاح بدافع الاحتجاج، أو المقاومة حتى استرداد حقوقهم؟ هذا هو الجحيم المخيم على بلاد الشام، متركزاً، في هذه الأيام، على غزة، مترافقاً مع فوضى الجحيم المقيم في سورية والعراق.

لا تحيلنا غزة إلى الثقافة والمثقفين، إذ ما الذي في وسعهم أن يقدموه لها؟ قد يكتب المؤرخون، في يوم ليس بعيداً، أن الثقافة، بأشكالها العميقة كافة، وقفت صامتةً إزاء صدمة كانت عاجزة عن استيعابها، مع أنها لم تكن الأولى، ولا مفاجئة. هذه الأهوال لا تفتأ تتكرر من وقت إلى آخر، هل لأن الجحيم يحرق كل ما يقف في طريقه، فما بالنا بثقافةٍ هي من ثرثرة وورق؟

في حال قارَب التاريخ الواقع، فقد يكتب، أيضاً، أن الثقافة لم تكن على سويّة الوقائع، وإذا كان هناك ما يُسمع فهو الأخبار وأعداد الشهداء، وتصريحات، إنْ لم تكن كاذبة، فهي تتجنّب الحقيقة. ما الذي في وسع الثقافة فعله؟ القلم ليس بندقية.

تتالت محن كثيرة، أسهم المثقفون في الدفاع عنها، والرفع من شأنها، وأيضاً في تشويهها، والتشويش عليها، والحطّ منها، ويا ليتهم صمتوا.

برع المثقفون في التخندق، حتى في قضاياهم العادلة، قضايا المصير الواحد والمشترك، كلّ إلى طرف، مدافعين، ليس عمّا يعتقدونه، بل عمّا يريده غيرهم. إذا كانوا يعملون لحساب الآخرين، فلن يمثلوا سوى خسارة القيم، غير أنهم يعوّضون عنها حالياً بنشاطات تحريضيةٍ، على “فيسبوك”، تدبيج البيانات والإنعام على بعضهم بالتوقيع عليها، غالباً تحكمها الشللية، والاصطفاف وراء شعارات مقاومة سلميةٍ بلا دماء، إذ المقاومة مقاومات، تسمح بالتذرّع بها وبأشكالها كافة.

في العقد الأخير، ابتُليت الثقافة بادّعاءات البهجة والحبور، فقد انفتحت على العالمية، بعدما عطّلتها قضايا محلية تتناقض مع الحداثة وغريبة عنها، فهي من عصر قديم زال وتآكل مع الزمن، وإن دُعي بالزمن الجميل، امتيازه الوحيد أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وعبد المطلب… وأفلام الأسود والأبيض. أما العالمية، فعالم طريفٌ بتهتّكه ونرجسيته وتخفّفه من إشكالات الاحتلال والطغيان والحرية.

طالما المثقف يتمتع بسلطةٍ متوهَّمة، فطموحاته تحققت بتوفر الأمان والاستقرار، ويستطيع الكتابة ناعم البال، لكن، ليس قبل استرضاء السلطة، والتوافق على قضايا إنسانية عالمية، والأولوية للجنس والعري والمثلية… ليس حطّاً من شأنها، بل لأنها غواية عالم بلا قيم. لكن، ليس قبل التنصّل من مسؤولية الفقر والجوع وقمامة عالم متخلّف.

فالكاتب ليس داعية للخير. الشائع أنه داعية للشك، أما لماذا لا يثير شكوكه الاحتلال والقتل والتعذيب والسجون والفساد والكتابة المبرمجة والمنع؟… فالقضايا عائدة إلى زمن مضى، التاريخ مليء بالضحايا، تلك قرابين حياةٍ لم تكن ثمينة لأصحابها.

بدايات القرن الماضي الأقوى تعبيراً عن زلّة التاريخ وسذاجته، الرواية حين كانت تُعرَّف تحت عنوان إضافي، تصنّف به: رواية تعليمية اجتماعية تهذيبية أخلاقية… في الستينيات، بعد ظهور أدب الواقعية الاشتراكية، علا نجم الأدب الملتزم، وأُعلنت الغاية منهما: التبشير بالإنسان الجديد، وبمستقبل خالٍ من الاستغلال… كان الأدب طامحاً إلى تغيير العالم، بينما كان يعمل على دفعه نحو الأسوأ، بالسكوت على ما لا يصحّ السكوت عنه، فلا رجاء منه.

استُغلّت فلسطين عقوداً على أنها قضية العرب الأولى، فكانت ذريعة للطغيان، تحت شعارات المقاومة والممانعة. إذا كانت الحكومات العربية قد ناضلت من أجل فلسطين حرة، فلماذا انعكس على شعوبها بالسجون والاستخبارات؟

اليوم، إن كان ثمّة من مثال ناصع، فهو يتركز على فلسطين، غزة تحديداً، مجزرة تُمارَس تحت أنظار العالم، أنموذج للعدالة المستباحة من دُعاتها ورُعاتها، الأوروبيين والأميركان، قبل الإسرائيليين سفاكي الدماء. لا محالة، طلب العدالة هو فعلُ مقاومةٍ بالسلاح والدم.