دعي القرن المنصرم بقرن المجازر الجماعية، وكان قد شهد حربين كونيتين ذهب ضحيتهما الملايين من البشر، وحروبًا أهلية، وأشكالًا من العنف الوحشي، وممارسة القتل الجماعي على أساس مذهبي أو عرقي أو إثني.

تتمثل آخر مجازر القرن في ما شهدته رواندا في منطقة البحيرات الكبرى بأفريقيا، ذهب ضحيتها قرابة مليون شخص على خلفية النزاع بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. كذلك عمليات “التصفية الإثنية” في منطقة البلقان بعد تفكك الفيدرالية اليوغسلافية السابقة. تعددت المجازر وطالت مختلف القارات، ففي كمبوديا قتل “الخمير الحمر” عشرات الآلاف من مواطنيهم، ومارس اليهود في فلسطين العديد من المجازر مثل دير ياسين وغيرها. وشهدت أوروبا مجازر ارتكبها النظام النازي ضد اليهود.

جرى استخدام تعبير “المجزرة” بمعنى الإبادة من الناحية القانونية للمرة الأولى عام 1944، ودلّ على نوع من الجرائم الجماعية، ترمي إلى التدمير الجزئي أو الكلي، لمجموعة بشرية حسب معايير قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية.

استبعدت منظمة الأمم المتحدة في ميثاقها لعام 1948 التعريف “العريض” لمفهوم المجزرة، لئلا يشمل المجازر التي طاولت مجموعات سياسية أو اجتماعية على قاعدة الصراع على السلطة، وتبنت تعريفاً محدداً، يؤكد على المعيارين العرقي والديني لـلمجزرة. كان وراء هذا التعديل الاتحاد السوفييتي في ظل ستالين، الذي لم يوفر قوميات وإثنيات، استهدفت بمجازر يشملها التعريف السابق.

منذ وقت مبكر، تنبهت الدول الشمولية إلى أن التعريف العريض للمجازر الإبادية كان ينطبق على ممارساتها، ففي بدايات نشوء الشموليات لوحظ لديها ميلٌ نحو استئصال شعوب ومجموعات سكانية رأت فيها خطراً على الدولة، إلى حد اعتبار عمليات القتل الجماعي بمثابة وسيلة و”عمل وقائي” ضد الفئات التي قد تمثل “خطرًا كامنًا” على سلطة «الشعب» ودكتاتورية البروليتاريا. على هذه الخلفية، أمرت السلطة السوفييتية على أعلى مستوياتها بعمليات الترحيل القسري، وشملت مجموعات إثنية كاملة مثل ترحيل الكوريين والألمان والتتار وشعوب شمال القوقاز عن المناطق التي عاشوا فيها منذ أجيال، بعدما حامت حولهم الشكوك بأنهم معادون للأهداف الشيوعية، وأن ولاءهم لا يذهب بالدرجة الأولى إلى الدولة السوفييتية.

ينتهج النظام السوري النهج السوفييتي في الإبادة، فإذا كان ستالين قد مارسها داخل الستار الحديدي، تحت هيمنة الدولة الاشتراكية، فالنظام السوري يمارسها على الملأ تحت سيطرة نظام بلا شرعية، إلا إذا كان النظام الجمهوري يمنح الشرعية للانقلابات وللتوريث، في إقامة نظام دكتاتوري.

اعتبر النظام السوري أن البلد ومن عليها ملكية شخصية لعائلة تتوارثها، ويحق لأجهزة الأمن اعتقال وسجن كل من يعترض على سياساتها أو يخالف توجهاتها، فكان استبعاد المعارضين والمخالفين في الرأي أشبه بالاستئصال، فاحتجزوا في السجون مددًا قد تمتد إلى سنوات طويلة دونما تحديد، قد يخرجون منها إلى القبر، ولم يقتصر على معارضين بل وأحزاب. ما أدى عقب كل انتفاضة أو تمرد أو حتى احتجاج في حماة وحلب وعدة مناطق في سورية إلى علاجها بالمجازر.

ما أعقب ثورة 2011 لم يشذ عما سبقها، إلا في أنها كانت مجزرة كبرى، شملت الوطن السوري بالمجازر المتنقلة، خلفت حربًا أهلية للقضاء على “الأعداء الداخليين”، بمشاركة الجيش بزعم استئصال الإرهاب، حصدت الآلاف من جميع مكونات الشعب السوري.

بعد تدخل إيران وروسيا إلى جانب النظام، جرى التحول إلى حرب طويلة الأمد، بلغت حتى الآن ما يزيد عن عشر سنوات، ابتدعت مجزرة مستمرة، ستمتد ما امتدت حرب تتجدد على الأطراف، مثلت النسخة الجديدة لنمط حداثي في الإبادة، لا تختص بطائفة، أو بدين، ولم تستثن أحدًا، تسمح بالقضاء على كل من يشك بولائه لنظام فاسد، مجزرة متنوعة تستخدم الأساليب والوسائل كلها، من الدبابات والطائرات إلى البراميل المتفجرة والكيماوي، تعمل بدأب على تهجير الناس، ودفعهم إلى النزوح عن أراضيهم، باعتبارها حاضنة للإرهاب.

يصب في هذا المفهوم، تحقيق أهداف المجازر الإبادية، بإبعاد مجموعات من الناس ليس من الضروري أن يتحددوا بصفة طائفية أو إثنية أو دينية، وإنما تجمعهم صفة الشك في أنهم غير موالين، كانت في استمرار سياسة التهجير والنزوح طوال عشر سنوات، وسلبهم أراضيهم وممتلكاتهم، ووضع اشتراطات للعودة، ليست سوى الخضوع للمساءلة الأمنية، والتأكد من موالاتهم، أما المشكوك فيهم، فتعريضهم للتحقيق والسجن، والإعدام بمحاكمات سريعة، أو تصفيات تحت التعذيب أو بالتجويع أو احتجازهم في أماكن غير صحية، والموت اختناقًا وجوعًا، أو من سوء المعاملة.

أرست هذه الأيديولوجية المبتكرة الموسومة بـ”المجتمع المنسجم” الأسس لتمييز الصالح من الطالح، ما تسبب بإخراج نصف السوريين على الأقل من بيوتهم، في نزوح داخلي، وهجرة خارجية، أصبحت تتجسد في تلك النهاية التي تتكرر من آن لآخر، بترحيل الأهالي والمقاومين بالباصات الخضر، تعاضد هذه السياسة القمعية الأوضاع السيئة من غلاء وفقر وتدني وسائل العيش وفقدان المواد الضرورية، وتجنيد الشبان، باتت كلها من جملة الوسائل التي تدفع للنزوح، ما يماثل فعل الإبادة بإخلاء البلد من الأهالي غير القابلين للاندماج، تحت ذريعة عدم الموالاة.