لا متلازمة بين الأدب الرديء والأوقات الصعبة، ولا الأدب الجيّد والأوقات السهلة. فالأدب الجيّد مثل الأدب الرديء يُكتب في جميع الأحوال والظروف. هذا للذين يعتقدون أن الرواية لا تكتب إلا في أزمنة الاستقرار والأمان والرخاء. ومن التبسيط الدعوة إلى الامتناع عن كتابة الرواية في زمن الحرب، والانتظار حتى تضع أوزارها، وهي وجهة نظر رغم معقوليتها، لا يُطمأن إليها.

السائد هو أن التاريخ يكتبه المنتصرون، ترى من يأمن لمنتصر؟ فبدا للكثيرين أن على الرواية تنقيح التاريخ على طريقتها، فاختصت بالخاسرين، كأنها مولعة بالهزائم. ولحسن الحظ تُكتب غالباً دون التقيّد بهذه الاعتبارات الجائرة.

كما ذهبت الرومانسية فربطت العبقرية والأدب بالبؤس والحرمان، حتى أن الحب ارتبط بالموت تحت تأثير رواية غوته “آلام فرتر”، وأصبح الانتحار التعبير المطلق عن الحب النبيل والعواطف البريئة، ما أطلق سلاسل شعبية رائجة من الروايات الرومانسية، داعبت على الرغم من سذاجتها، أحلام المراهقين وذوي المشاعر الرقيقة والغضّة.

” السائد هو أن التاريخ يكتبه المنتصرون، ترى من يأمن لمنتصر؟”

ولقد كان للرومانسية عودة بين حين وآخر، إلى أن انتزعت لها مكانة حافظت عليها في أزمنة التخمة والمجاعات والإرهاب والرفاهية البذيئة… مما زعزع متلازمة البؤس والأدب، والحب والموت، والغرام على النمط السخي بالدموع، مع أن الأدب كالحب مفتوح على السعادة والتعاسة، الإخلاص والخيانة، الوفاء والغدر…. لا يستثني عاطفة نبيلة ولا عاطفة دنيئة، إذا صحّ اعتبار الدناءة أحد أنواع العاطفة، لا رذائلها.

منحتنا ثورات “الربيع العربي” هامشاً عريضاً من الحرية، وإن لم يدم طويلاً، فالربيع نفسه أصبحت أقداره ليست بيد الذين أطلقوه؛ بات بيد أعدائه وأشبه بالجحيم. لكنّ الذين مسّتهم نعمة الحرية، أدركوا كم كانت ضرورية وعظيمة، لا يمكن الكتابة من دونها، واعتقدوا أنهم في حال حرموا منها، سيهاجرون بكتاباتهم إلى الخارج، نحو فسحة تعوّضهم عمّا فقدوه، كأن الكتابة الحقيقية نصيب الذين لم يرضوا عن الحرية بديلاً، وغفلوا عن أن الأدب يكتب دونما اعتبار للمكان، الحرية في دواخلنا.

ولئلا نعقّد ما هو بسيط، الجميع يفضّلون الكتابة في شروط مريحة، وحتى الرومانسيون، غواة الأرق والقلق، يكتبون بمتعة ومن دون ألم. وبالنسبة لروايات الثورة والحرب، فهذا عائد للكاتب، هناك من يتفاعل مع ما يجري ويكتب، وهناك من يتفاعل ويفضّل التأني، لدى كليهما مبرّرات للكتابة، ولإرجاء الكتابة؛ وهي في النهاية خيار الكاتب وحده، فلا يُسعى لتعميم مثال ينبغي احتذاؤه، ولا قاعدة يجب التقيّد بها.

وإذا كان ثمة ما نلح ّعليه فهو تحرير الرواية من المقولات الجاهزة والقواعد الجامدة. فالروائي لا يستطيع في الأحوال المضطربة عزل نفسه عنها، والكتابة لا تُنجز بلا جهد وكد وعرق، وثقافة لا غنى عنها، وإحساس بالمسؤولية. الكتابة حاجة، وهي وسيلة الروائي لفهم العالم والبشر والذات، وربما مع الإيمان بقضية ما. فهي فعل حياة، يكتبها وكفى، ثم يدعها لأقدارها.