وعدت فلسفة التنوير مع ظهورها في القرن الثامن عشر، بتحرير البشر فكرياً ومادياً وتحقيق السعادة في الحياة على الأرض. بعد مرور قرنين على هذا الوعد، كانت الخيبة الكبرى؛ الحداثة تحولت إلى مراوحة في سجن كبير قابل للتفجير، حماقات البشر لا تقف عند حد، بعدما حصل في هيروشيما وناغازاكي، والمجازر المرتكبة أثناء الفترة الاستعمارية، وحتى البلدان المتحررة صنعت ثورات، انتهت إلى شموليات. لم تعد الشعوب تصدّق مزاعم الحداثة في تحرير الشرط البشري. أما على مستوى الأفراد، ففقدان معنى الوجود الإنساني، بعد احتكاره في منظومات أيديولوجية، وتضاؤل الإحساس بالذات لصالح جماهير هي كتلة صماء بلا روح.

أكثر ما بات يلاحظ في المجتمعات المتقدمة، أن البشر أصبحوا تحت رقابة الأجهزة، بزعم الحفاظ على أمنهم وسلامتهم، ما شكل نطاقاً ضرب حولهم قيوداً لا مرئية، أنشأت واقعاً من سلطة تأمر وتنهي من دون الرجوع إليهم، بذريعة أنها الأحرص عليهم، ما جعل الإنسان يدرك ما لحقه من غبن، كان أكثر حرية في العصور السابقة، بوسعه الإفلات من السلطة، بينما في المجتمعات الرأسمالية أصبح ملفاً في دوائر سرية غامضة.

دعاوى الحداثة كانت صدى لطروحات المفكرين والفلاسفة، أحبطها انتشار آليات التدجين والمراقبة السلطوية. وهكذا لم تنطلق من فراغ صرخة فوكو الشهيرة: إن الأنوار التي خلقت الحريات هي التي خلقت السلاسل والأغلال أيضاً.

أحبط انتشار آليات التدجين والمراقبة دعاوى الحداثة

لم تف الحداثة بوعودها، فكان البحث عما يتجاوزها، ويحقق وعد التحرير والسعادة. فارتبط ظهور ما بعد الحداثة برفض الأنظمة السياسية التي كانت عنوانا للحداثة كالليبرالية والشيوعية والفاشية. واستعاد البشر جوعهم إلى الروحانية، فاستيقظت الأديان من المعابد، وكان من سبقهم لا يشبعون من الماديات، لكن الشبع لم يكن حلاً، ولا حلالاً، إلا إذا كان مكتملاً، يشمل الأجساد والأرواح.

هذا التفسير المتواضع، وربما الفقير، لما طرحته الحداثة من قبل، لم ينجح، ولم يسد فراغاً لا يفتر عن الاتساع، بعد فقدان الثقة في المشاريع التحريرية الكبرى للقرن العشرين كالماركسية. ونبذ المشاريع التي دعيت بالحكايات الكبرى، أو بالأساطير الكبرى. بما فيها تلك التي تنفي الدين، وتتشبث بمفهوم التطور، وتعيد النظر في التاريخ، وكأنها ستكتب تاريخاً آخر.

بيد أن حقبة ما بعد الحداثة، ستشكك في كل ما يبدو حقيقياً، وتحيله إلى اختلاقات وتوهمات، سواء تعلق بالعالم والحياة، أو بقدرة الأدب على محاكاة الحقيقة واكتشافها في العمق، طالما أنها لم تنجز شيئا أكثر من العمل على إحالة الواقع إلى ألعاب لغوية، تجلى بتهتك السرد في الرواية، بذريعة إطلاق الخيال إلى حدوده القصوى، أو إلغاء الحدود بينه وبين الواقع، تُعنى بانحساره. وصُوِّرت على أنها حلول إبداعية تكشف عن عوالم جديدة، كان تأثيرها ضعيفا، وأحيانا بلا أثر، كان القارئ بمجرد الانتهاء من الرواية لا يبقي منها شيئاً، إذ صلتها بالواقع رخوة، كأنها تلغيه من حساباتها. كما أن اللغة الجميلة مهما بلغت عبقريتها، تتبخر مع افتقادها لما تحيلنا إليه.

لم تقدم ما بعد الحداثة سوى مأثرة الانفصال عن الواقع، ومعاداتها لمحاكاة الحقيقة، إن لم يكن للحقيقة نفسها، فالاستطراد في الخيال يلفظ الواقع. وإذا كان العالم يريد أن يعيد ترتيب أولوياته، فالأدب مضطر إلى إعادة ترتيب أساليبه.

لذلك، لا غرابة في أن تنحو الرواية بالذات إلى أن تستعيد الواقعية مكانتها، ومهما كان ما مرّ من طروحات واجتهادات، فقد أضيفت إليها، فالواقعية تعود لتبتلع ما سبقها من محاولات، مع ردة إلى العواطف الإنسانية، ما بث الروح في الأدب، تبدى في استعادة أكثر واقعية لآلام الناس وتوقهم إلى الحرية والسعادة من خلال علاقات حرة، لا تنبثق من الخيال وتتلاشى في داخله، بل من الواقع المعاش.

لا تعني هذه النقلة، أنها للتغيير فحسب ولا للتنويع، إنها لحظة تفرض نفسها على الأدب، تُعنى بإشكالات عالم يطرح أزمات حقيقية، تتطلب أدباً يغوص في الحقيقة، الخيال فيه أداة تعمل تحت جناحها، مهما حلّق فهو موصول بها.