من حسنات العصر الحديث أنه لم يعد من المقبول لأي حاكم التذرُّع بأن الآلهة اختارته للزعامة، بعدما آمن البشر بأنّ الله يرسل أنبياء، لا قادةً يتصرّفون كأنهم آلهة. اعترف الحكّام بأنهم يستمدّون سلطتهم من الشعب، وعندما جاء الحاكم بعد انقلاب عسكري، لم يتردّد في زج الشعب بما أطلق عليه “ثورة”، بمعنى أنّ الشعب فوّضه القيام بها، مع أن القوّة وحدها وفّرت له الاستئثار بالحكم، ريثما يأتي آخر، ويستولي عليه بالقوّة أيضاً.

كاد الانقلاب والانقلاب المضاد أن يكونا الأسلوب العادي لتداول السلطة في المنطقة، لولا ظهور شخصيات تاريخية، أسست لمشروعية تلغي هذه الآلية، وذلك بتثبيت الانقلابي الأخير على سدّة الحكم طوال بقائه على قيد الحياة، غير أن طموحاته التاريخية تجاوزت التاريخ إلى المستقبل، فابتكر آلية إضافية تخوّله ممارسة سلطاته من القبر، حفاظاً على ما تركه وراءه من إرث قومي اشتراكي، أو ممانع ومقاوم، وكان في تسلّم الابن هذه الراية، تركة تنصّ على بقاء كل شيء على ما هو عليه.

” يتعثّرون فيذهبون بالعمران إلى الدمار وبالناس إلى النزوح”

أصبح الخلود عنوان إقامة الحاكم في عالمنا المنكوب، مع استمرار ملكيته الحصرية للأب المؤسّس، وهي قضية شكلية، ما دام الأبقى هو التوريث بالقسر النيابي، ما حوّله إلى توريث بقوّة القانون.

أصبحت الدولة ملكية عائلية، ما منح الشرعية لبقاء الدولة واستمراريتها، فصار للتوريث مكانته الكبرى والأولى، كسابقة تجهلها بلدان استقلّت حديثاً وتبنّت النظام الجمهوري عن تسرّع وعجلة، أثبته ما نشهده قبل عقد في تسارع رؤساء جمهوريات إلى تحويل جمهورياتهم إلي ملكيات، دُعيت كخطوة تمهيدية “جملوكيات”. ففي الوراثة سند قوي للبقاء على رأس السلطة، ما دامت العائلة الحاكمة تنجب أولاداً وبنينَ لديهم القدرة على وراثة حكم لا يحتاج إلى أكثر من وجود وارث، وهذا لا يمنع الإناث من الحكم للسبب نفسه، لكن الذكور هم الأحق، بصرف النظر عن المؤهّلات العقلية والأخلاقية والسياسية، فلم يشكّل الجهل والحماقة عائقاً، ومثلها السخافة والهبل، ولا البذخ والإفراط والتفريط بالمال العام. فالعائلة الحاكمة بحكم استقرارها رغم تقلّبات الزمن، تحمي وجودها المعتقلاتُ والإعدامات.

يُغني قانون التوريث عن أي شكل من أشكال الديمقراطية، مع أن صناديق الانتخابات مضمونة نتائجها، لكنها لا تقدّم للحاكم أكثر من مظاهر عفا عليها الزمن، كانت امتثالاً لاشتراطات عالم جديد لا يقبل بالالتحاق بمنظوماته الراسخة، إلا من خلالها. ما يضطر الحاكم إلى عدم التخلّي عن هذه الشكليات الديمقرطية، فهي رصيده الاستراتيجي في الظروف الصعبة، فالرئيس الخالد قد يضطر إلى اتخاذ قرار مصيري بالحرب أو السلام، وربما بالاستسلام… تأخذه على عاتقها برلمانات تسمح بالتحكّم بالشعب تحكّماً يُسهّل عليه قيادتهم إلى حروب يذهبون ضحيتها، أو إلى سلام مذل.

تلك الديمقراطية المصنّعة على قياس الرؤساء التاريخيّين، على الرغم من مساوئها، أفضل الحكومات في عالم القرن الواحد والعشرين، يتساند فيها التوريث والبرلمانات، الأول في الحكم، والثانية في المسؤوليات، أحد خصالها الكبرى استبعاد سيادة القانون منعاً للمحاسبة، خاصة أن الشعبويات في بلدان العالم المتقدّم، قد تعيد الديمقراطيات العريقة إلى الصفر.

هذا المخطط من تصميم رئيس ملهم، تشكل سيرته وصفة ناجحة لرؤساء على شاكلته على درب الخلود، وهي تركيبة، تلهم عائلته وبطانته استباحة البشر، أمّا الخلود فيسمح باستمرار النهب إلى الأبد.

لن نتابع هذه المهزلة، فالواقع يغصّ بهم، وعندما يتعثّرون، يذهبون بالعمران إلى الدمار وبالملايين إلى النزوح.