“على كل شخص أن يدرس التاريخ، لأن الحاضر معقد جداً، والمستقبل لا أحد يعرف شيئاً عنه”، يقول الشاعر الأميركي دين يانج. طبعاً ليس هناك من يستمع إلى هذه النصيحة سوى المؤرخين، لأن التاريخ مجال عملهم. بالنسبة الى غيرهم، التاريخ مادة للإطلالة على قصص الماضي، لأخذ العبرة كما يقال. أما الاهتمام بالحاضر، فشاغل السياسيين، ولأن أغلبهم هواة أو محتالون، يتخبّط العالم من جراء سياساتهم الطامحة الى السلطة بجميع الوسائل، حتى غير المشروعة. المستقبل حظّه أكبر، لا يمكن حرمان أحد من تخيّله على نحو متشائم أو متفائل على الرغم من لا جدواهما.

المشكلة مع التاريخ، والأصح مع المؤرخين، اعتقادهم أنهم يستنبطون من سيرورته ما يهبهم القدرة على التنبؤ بما سيتمخض عن الحاضر من توجهات في المستقبل. للأسف، درس التاريخ الحقيقي يعلّمنا شيئاً مهماً، هو بطلان التنبؤ، وأن لا حكمة في الاعتماد على دعاوى المتنبّئين، سواء عن علم أو عن جهل، فهم إن أصابوا، فخبط عشواء. كما لا جسارة في استقراء التاريخ، فربما كان هو ذاته خبط عشواء.

حتى لو كان في ما نقوله افتئات على التاريخ والمستقبل معاً، فقد بات معروفاً أن التنبؤ حماقة في مجال العلوم السياسية والدين والاخلاق وعلم الاجتماع… بعد السقطات التي تكبدها أصحاب الرؤى السياسية والدينية. فبعضهم ذهب ضحيتها، عوّل على المستقبل، فاختفى منه قبل الأوان. لم يعتقد أحد أن تهزم المسيحية الوثنية المتحررة من سطوة الآلهة جمعاء، وتكتفي الإمبراطورية بإله واحد فقط، أو حتى ثلاثة، ولا أن تسقط الحضارة الرومانية ليحل محلها البرابرة، وأن يشيّد الإقطاع نظامه على أشلائهم. متغيرات حدثت من دون أن يتنبأ بها أحد، خصوصاً المؤرخين الذين عاشوا في الوقت الذي سبقها.

” بات معروفاً أن التنبؤ حماقة في مجالات العلوم السياسية والأخلاق والدين والاجتماع”

في بلدنا الصغير سوريا، لم يُتوقّع أن يقضي العسكر على العهد الوطني بعد الاستقلال، بانقلاب قام به مجنون يدعى حسني الزعيم. في الواقع، لم يكن مجنوناً، كان مقامراً سكيراً، ومغامراً بلا بصيرة. لكن أن ينجح الانقلاب ويمالئه سياسيون وطنيون كبار، كان هو الجنون بعينه. ثم من كان يتوقّع أن يُحكِم قبضته على سوريا البلد المشاغب، ضابط خسر حرب 67 وزعم أنه ربحها لأن الحكومة التقدمية المهزومة لم تسقط، لتصبح سوريا بعدها، على امتداد نحو أربعة عقود، عرضة للسلب والنهب، والقهر والإجبار، حتى أمست من أملاك أسرة، حوّلت الجمهورية إلى نظام توريث. من كان يخطر له، إلا من قبيل التخريف، أن تشهد سوريا الخائفة هبّة شعبية لا تستثني مدينة ولا ريف، وها هي قاربت أربع سنوات، وما زالت مستمرة، مع أعداد مذهلة من الضحايا، وانقلاب الحال بالبلاد والثورة إلى التمزّق والموت اليومي؟

لن نغامر ونتنبأ ونقول، إن سوريا مقبلة على التقسيم الأوفى حظاً ومرارة بعد المجازر الطائفية. إذ من غير الحكمة المجازفة برسم مسار مستقبل ما زال غائماً في الدخان المتصاعد من حرائق لا تنطفئ إلا لتشتعل من جديد. ألم تدهشنا من قبل جوانب غير متوقعة في الأمور التي نعرفها جيداً، ومنها عن المعارضة مثلاً، التي كانت اذا نجحت في جمع مئة ناشط للتظاهر، يعتبر ذلك إنجازاً عظيماً لا يدوم أكثرمن دقائق، ريثما يصل إليهم الشبيحة الأوغاد؟ ولهذا، كيف لأحد أن يحلم بحدوث شيء يماثل السحر، أن تشمل الاحتجاجات جميع أنحاء سوريا؟

قدم الشعب السوري للمعارضة ثورة لا يد لها فيها على طبق هائل من المظاهرات، وبشراً غاضبين يعدّون بمئات الآلاف، ابتدعوا شعارهم “واحد، واحد، الشعب السوري واحد” على الضد من “الأسد أو لا احد”. في أتون هذه المعجزة، كان الاعتقاد أن المعارضة ستهتبل الفرصة وتقود الجماهير نحو النصر… ماذا فعلت؟ على غير توقع على الاطلاق، تنازعت أطرافها على المناصب في سوريا المقبلة، والتي تخلّفت عن القدوم تحت وطأة تنظيراتها عن التدخل الغربي المفروغ منه.

في عز انتشار الانتفاضة، لم يغامر مؤرخ، أو محلل، أو حتى استراتيجي بالتنبؤ بالذي جرى، أو الذي يجري الآن؛ فالتدخل لم يحصل، حصل الأسوأ، وظهر اللامتوقع: داعش والنصرة والكتائب الاسلامية. بعدما كانت التنبؤات أن النظام سيسقط خلال أشهر معدودات.

يبدو أن أفضل ما نتحلى به هو التواضع، وألا يتعدى التنبؤ الحرص على التحذير مما نخشى وقوعه، وقد يفلح الجهد في تجنّبه