درج القول منذ فترة على أنّنا نعيش في زمن فاسد، نشهد انهيار القيَم العليا للمجتمع؛ الأخلاق والدين والوطن والأُسرة. إنّ ما حاولت الإنسانية الحفاظ عليه، وعدم التفريط فيه، بدأ الناس ينفضّون عنه، ويستعجلون الخلاص منه، لا سيما هذه المسميات الكبيرة؛ حتى باتت كأنها لعنة، لا علاج لها إلا بالتخفُّف منها، وعدم التلفُّظ بها، إن لم يكن بإنكارها.
انعكس الانهيار على الفضاء العام، وانتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى باتت السخرية منها لازمةً عادية، يُعتدُّ بها، ومادة للظهور، باعتبارها من قيَم الحداثة وما بعد الحداثة، وكأنّ المستقبل لن يأتي إذا لم يجر تنظيف عقولنا منها والتخلّي عمّا اعتدنا اعتباره من ركائز المجتمع الفاضل أو المتحضّر أو المثالي أو المنشود… لم تعُد هذه المجتمعات مطلوبةً بعدما أثبتت عجزها عن الدخول في التاريخ، ما أوحى بأن عصراً قديماً يتحلّل بفعل ما يحمله من قيَم بائدة أثبتت عدم جدواها، وباتت خارج العصر.
لم تدافع الثقافة عن هذه القيم، بل وقفت منها موقف الشامت، وتحدّث المثقّفون عن قيَم مغايرة أُخرى، غامضة ورافضة، وكأنّ الوطن أو الأخلاق التي يُعمل على نبذها، كانت ملكاً للحكومات والسياسيّين والأحزاب ووسائل الإعلام.
كأنّ الأخلاق التي يُعمل على نبذها كانت ملكاً للحكومات
بينما كان على الثقافة أن تدرك بأنه إذا ما كان هناك انهيار، فالمثقفون جزء منه، وما الفساد الحاصل، إلّا بالشراكة معهم، وما تلك الثقافة الملفّقة إلّا غطاء لدعاوى أنظمة فاسدة، استغلّت تلك القيم في ترسيخ أكاذيب كانت أقنعة اختبأوا وراءها، وإذا كانت قد استُثمرت لردح مديد من الزمن، وما زالت، فمن فرط تعدُّد الأقنعة؛ قومية ووطنية وأيديولوجية واشتراكية ونضالية ودينية ويسارية وعشائرية وطائفية، أضف الشعارات المتقنّعة بالمقاومة والممانعة والصمود والتصدّي… تحت راياتها نُهبت شعوب، وسُرقت أوطان بزعم حماية البلد ونهضة الأمة.
مشهد بلداننا ليس سارّاً، وهو مشهد يجرى على الملأ، فوسائل الاتصال وفّرت ساحة لا تزيد عن مستنقع يتراشق فيه الأطرافُ الاتهامات، كمثال متكرّر على شرقنا التعيس، يفضحه تبادل المواقع بين أنظمة فاسدة وطواقم المحتالين النصّابين، كلٌّ منهم يريد سلب الآخر، ما سرقه كلاهما معاً.
قد نفهم هذه الميلودراما الشرّيرة، لكن كيف يفهمها المنقادون لهذه السياسات، ولا يتنبّهون للذرائع المبتذلة للنزاع على تقاسم غنائم، يجهد المتخاصمون في تجنيد جماهير مُسيّرة، تؤيّدهم وتصفّق لهم، جماهير عمياء، أو تتعامى عمّا يدور تحت أنظارها، تقف إلى جانب من يخدعها، وتدافع عنه، ينحاز بعضهم إلى طرف، وبعضهم الآخر إلى طرف، مع أن المنطق يُملي عليهم التوحُّد ضدّ من أودوا بهم إلى الحروب، وقد تبلغ الخديعة لا أقلّ من المأساة، عندما يضحّون بأنفسهم، ويدفعون بأولادهم إلى الموت دفاعاً عن أنظمة مجرمة، ولا يجدون ما يوفّر عليهم الإذلال في سبيل الحصول على ما يكفيهم مؤونة العيش، وتأمين ضروريات الحياة بكرامة، من دون إدراك أنَّ حياتهم تُنهب، وأرواحهم تُسلب، وعرق جبينهم يُهدر. وإذا كان هناك من إدانة، فسوف تشملهم، ولا أقل من الإدانة بالغفلة.
يدّعي مثقّفو الأنظمة أنّ هذا الانحدار هو النتيجة الحتمية لعصر يتميّز بالاضطرابات السياسية والدينية والتحوُّلات الاجتماعية والفوضى العالمية. تستند دعواهم إلى أنَّ كلّ ما عملنا من أجله ودعونا له كان إخفاقا مطلقاً، ويجب إعادة النظر في كل شيء من تغيير الحاضر إلى صناعة المستقبل، ومن الصفر؛ دعوة برّاقة، تنسف الماضي، كأن المجهول سيمنحنا تعويضاً من دون عناء، بينما لا يعدو أكثر من ترحيله إلى المستقبل.
وربما في الاعتراف بأننا نعيش في زمن فاسد، ليس الفساد الحميد، الذي يجري التسامح معه، الذي ينتشر تحت ضغط الحاجة، ويشكل صمّام الأمان، لكنه إنذار يحذّر من انفجار المجتمع، بعدما تعمّم الفساد وانتشر وشرش.
نحن في زمن سقوط الأقنعة، ثمّة ما ينبغي إصلاحه، وما يجب اقتلاعه، والتشبّث بإلغائه، وما يصحّ البناء عليه، وما هو مطلوب ابتكاره وصناعته من جديد إلى حدّ خلق عالم آخر… لكن ليس بلا قيم، لن تكون مهمّة الثقافة مستحيلة، إلّا في حال الافتقاد إلى بوصلة أخلاقية.
يجب ألّا نخجل عندما نقول إنه يلزمنا قدرٌ من الأخلاق لا غنى عنه. إذ ما جدوى أعظم مشروع سياسي أو قومي أو اقتصادي أو ثقافي، إذا كان القائمون عليه من المجرمين اللصوص؟
-
المصدر :
- العربي الجديد