يقدم العرب للتاريخ الحديث أمثلة ترتبط بماض يزداد تباعداً وغربة عن الحاضر، يجري اعتباره على أنه المستقبل المنشود، كان في الخلافة أحد مظاهره التي تحققت على الرغم من هزليتها، وفبركة إخراجها المحكم للعلن، حتى بدت أشبه بمؤامرة من فرط المبالغة بقدراتها. بصرف النظر عن التشكيك فيها، تكمن بذورها القريبة في العقد الأخير، مع تواتر الدعوات الجهادية، وكانت علاقتها لصيقة بالمتغيرات العربية التي اتخذت فيما بعد تحت تأثيرهذا التوجه، طابعاً إسلامياً أصولياً. بلغ ذروته مع انكسار الربيع العربي الذي أثار غضب الحكومات القائمة، بما حققه من إنجازات متلاحقة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وكادت أن تكون سورية الختام، لكن سرعان ما بدأ العد التنازلي لوأد الربيع، وكان حرقه جاهزاً.

الحرب المتقطعة في العراق التي كانت تشتدّ وتتراخى، جعلت من الطائفية سمة الأعوام القليلة الماضية، شملت إرهاصاتها المنطقة في حرب لا يمكن إنكارها، مع أنها كانت صراعاً على السلطة، عززتها تصفية حسابات موهومة بين الشيعة والسنة، تردّد صداها في سورية بعد قمع مظاهرات الاحتجاج، وخذلان الأصدقاء لها. كاد تطييف الحراك السوري أن يكون الصوت الوحيد، بعد دخول حزب الله والميليشيات العراقية إلى سورية، وسيطرتها على مفاصل نظام كان في انحدار وتحلل، تحت شعارات طائفية.

التطور الخطير في ظهور “داعش” أنها باتت وبسرعة خارقة تتحرك في مجال واسع، وتتمركز في المدن، وبدا في الأيام القليلة الفائتة، أنها في كل مكان، في الرقة وحلب والغوطة والموصل… ولبنان والحدود السعودية، وقيل في مصر وغزة، وخلاياها مزروعة في أوروبا وأمريكا. وهكذا خلال بضعة أيام باتت تهدد العالم كله. ما أعدّها لتصبح العنصر الأساسي الذي يدور حوله الصراع، أعطى للعالم الحق في التدخل، درءاً للخطر الذي بات يتهددها في عقر دارها، ليس قبل بعض الحسابات، إلى أي حد يخدم التدخل مراميها.

بذريعة القضاء على “داعش”، تعمل الأنظمة في العراق وسورية إلى الاستفادة من التلويح بها لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه، والإنعام عليها بصك براءة عما ارتكبته، مع تفويض، سواء وحدها أو بالمشاركة في حرب ضد الإرهاب، تستخدمه في التخلص من أية معارضة داخلية ، طالما ستحصل على الحصانة من العقوبات والمساءلة عما سبق. روسيا ستشكل الضامن دولياً لتعهدات الأنظمة، وإيران الوصية على استمرار الحرب مقابل غض النظر عن تجاوزات الأنظمة للدواعي نفسها؛ الإرهاب.

المد الطائفي بشّر باكتساح عملياته المستقبلية مساحة جغرافية بلاد الشام، ومن ثم بلاد العرب والإسلام برمتها،. المشهد المقبل، ربما لن يزيد عن مطاردة “داعش” والقاعدة؛ بصفتهم وكلاء السنة، تلاحقهم إيران وحزب الله بصفتهم وكلاء الشيعة داخل العراق وسورية تحت شعارات الذود عن المقدسات الدينية. وكما أثمرت من قبل، أثمرت قبل الاتفاق، فالجثث تتوارد من دون تحديد، على أي مذهب هي، ومن أي طائفة كانت، فالإعدامات على قدم وساق وبالجملة، ولا شيء يمنع تفجيرات طالت مساجد ومقامات ومزارات وحسينيات وقبور ومآذن… ومعها أيضاً تدمير تماثيل مفكرين وعلماء وشعراء ورموز الاستقلال… إعدام الماضي البعيد والقريب التنويري إحدى مهمات محطمي الأوثان.

خطر “داعش” يملي على العالم إبقاءه قائماً، طالما يستفاد منه. أما الحرب الحقيقية، فهي إرسال العرب إلى مستنقع لن تنجو من الخوض فيه طوال المائة عام المقبلة. الأمر الوحيد الذي ستعمل عليه الدول عدم امتداد الإرهاب إلى أراضيها، وحصر التفجيرات والمفخخات وقطع الرؤوس في بلاد العرب الشاسعة، بحيث يستيقظ ما تبقى من الأحياء يوماً ما على عالم آخر تحت أعلام سادة المنطقة، القدامى الجدد، والطارئين ونهازي الفرص، فالبلاد مستباحة.

التساؤل المحير، هذه التحذيرات التي تقرع الرؤوس يومياً منذ سنوات، وعلى مدار الساعة، لماذا لا تفلح، مادام الخطر وجودياً؟ هل لأننا نعتقد أن وجودنا، لا يؤهلنا إلا لنكون أمواتاً.