لم تتوقف الحرب في سورية عن تطوير غرائبياتها، والاكتساء بالغموض. حرب الأسرار باتت حرب الجميع ضد الجميع، والحرب في الخندق الواحد، ضد “داعش” و “النصرة”، والنظام، والإسلام، من يدري؟ وقد تكون لاستنزاف إيران، وإحراج روسيا، أو لتوريط أمريكا في مستنقع المنطقة. وربما حرب المعارضة المعتدلة المسلحة، ضد المعارضة الإسلامية غير المعتدلة، أو امتدت كما تقول التسريبات، إلى مناوشات بين قوات الدفاع الوطني والشبيحة، ضد الارساليات المذهبية العراقية والإيرانية وحزب الله. أو حرب بين اللصوص، لصوص النظام، ولصوص المعارضة … أو كلها معاً. هناك أيضاً أطراف أخرى فاعلة، حربها لا تبدو على السطح لأن عملها في الخفاء أجدى.
ماذا تدعى هذه الحرب؟ أو لماذا أصبحت على هذه الشاكلة من فوضى، تراكبت فوق فوضى، ومازالت توغل في الفوضى؟ هذا التشاؤم ليس بالنسبة إلى المطلع العارف والحصيف، الذي لا تخلو تفسيراته من أسباب وطنية من ممانعة ومقاومة، أو استراتيجية بعيدة المدى تعيد تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية. وإنما بالنسبة إلينا نحن الناس العاديين، الذين لا نجد لها سوى تأويل واحد، هو أنها ما زالت كما بدأت: حرب على السوريين، سواء بقتلهم، أو التحريض عليهم وإخضاعهم للطاعة، أو التغرير بهم. النظام صممها هكذا، كي ينهيها بسرعة، ها هي اليوم، بلا نهاية.
لو اقتصرت الحرب على جانبها الغرائبي فقط، لكانت حرباً طريفة، فقد لابسها في فترة سبقت بعض النوادر أسهم الحماصنة فيها بالقدر الأكبر على الرغم مما أصابهم منها. لكن لهذه الحرب وجهها الطاغي على وجوهها الأخرى، إنها حرب الآلام الكبرى، آلاف العائلات فقدت إن لم يكن الأب أو الابن، فالأم أو الأخت، هذا إذا لم تقتل العائلة كلها عن بكرة ابيها، بالقصف أو بالتفجير، أو بالإعدامات الميدانية، أو حرقاً عن عمد. لا داعي لسرد أنواع التعذيب، ما ارتكب لم يترك نوعاً، بل وأضيف إليه ما لا يخطر على بال، فالأحقاد التي لم تكن مبررة، استدعت كافة صنوفه، مع أن الناس الذين قتلوا وعذبوا امتثلوا للنظام طوال أربعين عاماً، وذهبوا إلى حروب الوطن، ودافعوا عنه، وتقيدوا بالقوانين التي لم يتقيد بها قاتلوهم، ولم ينهبوا البلد، ولا اختلسوا، ولا سرقوا تعب غيرهم، ثم لم يجدوا موطئ قدم فيه، حتى في قبر، عليهم البحث عنه خارج الحدود. فالبلد الذي شهد عدة هجرات إليه واحتضن الفارين من عسف بلدانهم، أصبح اليوم أكبر مصدر للمهاجرين.
لم تشهد سورية في تاريخها الحديث والقديم، مثل هذا المسلسل المروع من الحرب الوحشية المستمرة، حتى لم تعد مفهومة. فقد خرجت من أيدي الذين أشعلوها، ومصائرنا باتت في الخارج. الآن وسورية تقف يائسة على أعتاب العام الخامس دون أدنى بارقة أمل بالخلاص من حرب عبثية ما زالت كما بدأت مفتوحة على القنص والقصف والدمار. في ذاكرة الماضي القريب، اقتادت الحرب العامة الأولى شباب سورية إلى جبهات الدردنيل وقلعة غاليبولي وقناة السويس، ومن عاد منها، ذكر عن أهوالها الكثير، لكنها لم تبلغ ضراوة هذه الحرب، ولم تكلف ما كلفته من ضحايا وعذابات.
المشهد الأكثر غرائبية، وإن كان كما يبدو هادئاً، يدور في الأمم المتحدة، مجلس الأمن، كواليس وزارات الخارجية … حصدت تصريحاتها الكاذبة من المآسي ما لا يعد ولا يحصى. منطق الصراع في السياسات الدولية والإقليمية لا يأخذ حقوق الشعوب في حساباته، ولا يحفل بها، ينصاع للمصالح وللجغرافيا. ما يحتم على الحكومات الديمقراطية خاصة مواقف لا تعبأ بالأخلاق والضمير، طالما الشهداء من الشعوب التي أراضيها ساحات صراع. حتى قضية الأولاد الذين انقطعوا عن الدراسة طوال أربعة أعوام، ومرشحة للزيادة، تجدها الدول المتقدمة أرحم، طالما نجوا من اقتلاع أظافرهم، ولم يعذبوا ليشوا بأهاليهم.
لكي نحسن فهم السياسات الدولية، يجب معرفة أن حقوق الشعوب خرجت من التداول الواقعي، وإن تشدق بها السياسيون. ينظر العالم إلى المأساة السورية بتجرد، لهذا تتحول مطالبة السوريين بالحرية والحياة الكريمة إلى لعبة أمم، لا تقبل المراجعة، وسياسات انتهازية تعتمد مخططات استراتيجية ومناطق نفوذ، ومكاسب إقليمية يُعترف بها أكثر من تشريد شعب، أو حتى قتله.
-
المصدر :
- المدن