هل الإنسان شرير بالفطرة، أم بحكم الاعتياد؟ سؤال كان يُتداول بصيغة أخرى، يحيلنا إلى أنه ربما كان خيّراً بالفطرة. لكننا سنعول على أن الإنسان يولد بريئاً، أما الشر الذي يركبه فبحكم الجشع. بعد فترة من وجوده على الأرض، هبطت الأديان، دعت إلى وحدانية الإله، وأكدت على النواهي الأخلاقية، وحضّت الإنسان على فعل الخير، والامتناع عن القتل رأس الجرائم كلها. وكانت الوصايا العشر التي اتفقت الأديان والأخلاق عليها تحذيراً صارماً من اقتراف الشرور مهما كان نوعها. وصايا من فرط وضوحها لا تقبل مراجعة، ولا تفسيراً معاكساً.

كان إلزامها مطلقاً بسبب مصدرها الإلهي بغية الحفاظ على استمرار الحياة الإنسانية. ولقد كان لمؤازرة الحضارة للممنوعات الدينية الفضل أيضاً في قمع النوايا السيئة للبشر.

خاضت الدول حروباً دموية سواء عن حق، أو عن باطل. انتصار بعض الدول دفع إلى وضع نهاية لها بمعاقبة المسؤولين عنها، بمحاكمتهم عن التسبب بها، لئلا تمرّ جرائمهم من دون حساب. خلال المحاكمات، تردّدت مراراً جملة أصبحت مشهورة: “أنا أُنفّذ الأوامر”.

“يدّعي القتلة أنهم يسعون إلى عالم أفضل ديناً وأكثر تديّناً”

ما يحوّل المسؤولية من منفذي الجرائم إلى المشرفين عليها: الحاكم، الديكتاتور، جنرالات الحرب… هذا ما تردد في محاكمات نورمبرغ الشهيرة حول جرائم النازيين، والمحاكمات التي سبقتها وأعقبتها. الأحكام القاسية التي تراوحت بين الإعدام والسجن لمدد طويلة، لم تفلح في منع الحروب والجرائم، وكان في تكرارها وبوتائر عالية، دلالة على أن البشرية لا تتعلّم من تجاربها وآلامها وعذاباتها.

في السنوات الأخيرة، أحدثت الحرب في المنطقة العربية تحوّلاً نوعياً في ما ارتُكِب من مجازر رهيبة، بتنادي أحزاب المذهبيات الإسلامية إلى سورية لمباشرة القتل الحلال في الدين الواحد، ترافقاً مع الحصار والتجويع، وكلّها ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية. اللافت أنها ضد الإسلام الذي هبّوا للدفاع عنه، مع أنهم لا ينقطعون عن أداء الصلوات الخمس ويصومون رمضان.

بالمقابل لا يمتنعون عن القتل في الأشهر الحُرم، ويعتبرون إفناء تابعي المذهب الآخر واجباً دينياً. لماذا؟ ثأراً لحدث مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً، من دون إخضاع ما يرتكبونه إلى أية مناقشة عقلانية. حسب قناعاتهم، كانوا يقاتلون كفرة ومرتدّين تنفيذاً لأوامر إلهية، مع أنها أوامر قادة ميدانيين.

تزجّ سياسات الهيمنة الإقليمية الإسلامَ في حرب دينية، وتستغل تاريخه في صراعاتها، وتجيّر طموحاتها إلى ما يُزعم أنها إرادة الله توكلها إلى مليشيات تقتل بالنيابة عنه. بالتالي، يدّعي القتلة أنهم يسعون إلى عالم أفضل ديناً وأكثر تديّناً، وربما كان هذا صحيحاً، لكنه يؤدي إلى أشدّ الجرائم دموية.

إذا كان الفاعل يتحلّى بالبراءة، ويعتقد أن القتل عمل صالح، يتقرّب به إلى الله، فالبراءة لا تسوّغ القتل، إذ هي نتاج تعطيل العقل عن التفكير: براءة الشر، ذروة الغباء الذي لا يغتفر.