أتاح الحدث الحاليُّ في غزّة إزاحة الغطاء عن العالَم، بعد الظنّ أنّنا نعيش في عالَم مستقرّ، رغم انقساماته وأمراضه من فقر وجوع وتبذير، وحروبه تلك التي لا تتوقّف حتى تبدأ، إلى أن تجد حلّاً بالمفاوضات، أو تهدأ وتُلفلَف ليُعاد فتحها في وقت قادم، ريثما تُجدِّد الأطراف المتحاربة قواها.

اتّسمت على هذه الشاكلة في الحرب الباردة وما بعدها، بأنّها حروب بالوكالة بين مصالح القوى الكبرى، أو اعتداء على بلدان لديها ثروات، تأخذ شكل صراع بين الظلم والاستبداد، وإن كان بعُرف البلدان والأنظمة المسيطرة، صراعاً بين الخير والشر، طبعاً تَعتبر الدول الكبرى أنّها الخير بينما الشعوب التي تدافع عن نفسها توصف بالشر. ودائماً قوّة الإعلام، واللوبيات والسياسات المتوارثة عن الزمن الاستعماري، تُكرِّس مطامع الدول على أنّها طموحات نحو إنسانية أرقى… لم يعُد هذا مقنعاً، العالم انكشف.

بمناسبة غزّة، يمكن القول من دون إبداء شيء من الحرص، إنّنا لم نشهد هذا القدر الهائل من الأكاذيب منذ ظهور الإنسان الناطق، وكأنّ هذا الإنسان لم يتعلّم النطق إلّا ليكذب، مثلما لم تصل السياسة لهذا الدرك المنحطّ إلّا في هذا الوقت، وكأنها تؤكّد على سمعتها السيّئة مع المزيد من التدنّي، خاصّةً أنّ المعمل المنتِج لهذه السياسات يتمركز في الدول الديمقراطية، وكأنّما حرية الرأي خدعة، ومغادرة للمنطق السليم، وانقلاب على المواثيق والقوانين الدولية للأمم المتّحدة.

لم نشهد هذا القدر من الأكاذيب منذ ظهور الإنسان الناطق

باعتبار اللوبيات الإسرائيلية فاعلاً مؤثّراً، سارعت إلى استخدام عملية “طوفان الأقصى” لإعادة بناء سردية الصراع العربي الإسرائيلي على أنّها، حسب التعريف الغربي المستحدث، “معاداة للسامية”، برّرت للحكومات الأوروبية الانزلاق إلى المتاجرة بالعداء للاجئين والمهاجرين، وتجديد فوبيا الإسلام.

لم يتوقّف الاستغلال عند هذا الحد، بل حرّض على اعتبار “الانتفاضة” دعوة إلى إبادة اليهود، فأُعيد النظر في تعريفها المعتمَد عالمياً في “قاموس أكسفورد” على أنّها “انتفاض الفلسطينيين ضدّ الاحتلال الإسرائيلي”، بينما القاموس الفرنسي “لاروس” اعتبر الانتفاضة “ثورة شعبية في وجه نظام قمعي أو عدوّ أجنبي”. وفي أميركا مهما اختلف التعريف، فلا يحمل هذا المعنى.
هذا الانحياز المبالغ به نحو “إسرائيل”، كان بسبب ما اجتاح أوروبا وأميركا من احتجاجات أزعجت الحكومات والمراكز الاقتصادية الكبرى وأصحاب المصالح التجارية الضخمة، كما استفزّت المموّلين الكبار، فالمظاهرات كان أغلبُها من الناشطين الشبّان والطلّاب الجامعيّين. فمارسوا الضغوط على الجامعات، وجرى استجواب رئيسات أهمّ ثلاث جامعات؛ “هارفارد”، و”بنسلفانيا”، و”معهد ماساشوستس للتكنولوجيا”، بحجّة انتهاك لائحة السلوك الجامعية، أدّى إلى نشر أجواء معادية للسامية، حدّده تقرير الاتهام بهتافات تدعو إلى الكراهية مثل: من النهر إلى البحر، وفلسطين حرّة، وإحياء الانتفاضة. خلقت بيئة خطرة، وحالات مسيئة جسدياً، وأفعالاً لا تخدم أغراضاً مشروعة، ما أثّر على الجمهور بطريقة مقلقة.

كان الرد الأكاديمي على هذا التحقيق المكارثي في الكونغرس الأميركي، بأنّ هذه الهتافات والدعوات يمكن تفسيرها حسب السياق، إمّا أنها حرية الرأي أو دعوة إلى الكراهية، ولا يفصل فيها إلّا حسب ورودها، ضمن أي سياق، والسبب الذي أدّى إلى اطلاقها، وهل تسمح بها حرّية التعبير؟

بحاجة إلى قيادات مختلفة، يكون لديها على الأقلّ إحساس بالعدالة

صنّفت لجنة التحقيق المكارثية هذا الردّ بأنه إساءة لاستعمال الحرّية، ما يشجّع الطلبة على التمرّد. ولقد بلغت الغطرسة في نتائج التحقيق حدّ المطالبة باستقالة رئيسات الجامعات، أو إقالتهن تحت طائلة التهديد بقطع تبرّعات بعشرات الملايين في حال الامتناع، ولم يعد إبعادهن عن مناصبهنّ إلّا مسألة وقت.

لا يُبشّر العالَم بخير إذا كانت النخبة مهدَّدة من رجال المال والأعمال الذين يعالجون الأزمات على هذا النحو، لا يتفهّمونها، بل يقمعونها، مثلما اعتاد أمثالهم من السياسيّين عدم إطفاء الحروب، بل صبّ الزيت على النار.

وبينما العالم على عتبة نظام عالمي جديد، كما يُروَّج له، لا يَلوح للمراقب أنّ أمريكا القوّة العظمى قد تُقدِم على بضع خطوات لا غنى عنها لتُحقّق انفراجاً في الأزمات الدولية، لا الرئيس الحالي ولا المتوقَّع قدومه لديهما جديد، وإنّما القديم نفسه، ولا توحي قدراتهم المستهلكة إلّا بتكرار السيناريوهات المرعبة سواء في فلسطين أو غيرها، كما أنّ الطبقة السياسية الأميركية لا يُرجى منها تحوُّل، فقد ظهرت في حرب غزّة، بلا أخلاق ولا تُعنى بالضمير، تُشترى بأموال الآيباك، عدائية تزرع الفوضى.

أمّا بريطانيا، فابتُليت بحكومة محافظة تضمّ ثلّة فاعلة من أبناء المهاجرين والأقلّيات الموتورين، تحاول كسب الشعبوية من عملة رائجة، بتهجير طالبي الهجرة! كذلك فرنسا من فرط شهرتها في الحرّيات، لم تستطع أن تدين جرائم الإسرائيليّين. بينما ألمانيا واقعةٌ في عقدة ذنب تاريخية تجاه اليهود، تعالجها بانحيازها الأعمى إلى “إسرائيل”، ومساعدتها بارتكاب الجرائم تجاه الفلسطينيّين، ولا تشعر بعذاب الضمير.

هذا الرهط من الحكومات مرشَّح لصناعة نظام عالمي جديد، في حين لا يصلحون إلّا لإدارة شعبويات حاقدة، بالتواطؤ مع رجالٍ فضائحُهم تزكم الأنوف، من تجارة الأسلحة إلى إدارة شبكات مخدرّات، وجُزر دعارة أطفال. إنّ نظاماً عالمياً جديداً يحتاج إلى نوعية مختلفة من القيادات، على الأقلّ لديها إحساس بالعدالة.