ليست الحرب في غزّة فقط. هناك حربٌ أُخرى تُخاض في ساحات متعدّدة من العالم، أقلُّ منها ضراوة، وتؤثّر فيها بقوّة، تُسجّل مكاسب وخسارات تُضاف إليها، سواء إلى المقاومة الفلسطينية، أو للجيش الإسرائيلي، بلا قذائف الياسين ودبّابات الميركافا، مادّتها الجدل والمناقشات، ومختلف أنواع الضغوط، من تكميم الأفواه إلى التهديد بالطرد من العمل. حربٌ بدأت في الساعات الأُولى التي أعقبت صباح السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر.
اتّخذت غالبية دول الغرب جانبَ “إسرائيل”. بالمقابل، دافع الكثيرون عن حقّ الفلسطينيّين بالمقاومة في غزّة التي أصبحت أكبر معتقَل في العالم، ما يبيح لهذا الانفجار، الذي بات لا محيد عنه، أن يُسمع العالَم صوته. أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة الصراعات، كإحدى أكبر الأزمات الدولية التي تعاند الحلّ، واتّسع ما يبدو الهامش للحرب الأُخرى كي تنتشر وتتصاعد يوماً بعد يوم، ضدّ ما أخذ يُشكّل تضليلاً إعلامياً مدعوماً بإجراءات حكومية غربية غير مسبوقة.
كانت هذه إحدى الحالات النادرة لانقسام العالَم إلى جبهتين، انقساماً عمودياً وأفقياً بين فلسطين و”إسرائيل”، شارك فيها سياسيّون وشخصيات مرموقة من مثقّفين وفنّانين وأساتذة جامعات ومدارس ومنظّمات ووسائل تواصل، تجلّت على الأرض في مظاهرات تطوف شوارع البلدان، تُنشد الأغاني وتعزف الموسيقى وتقرع الطبول، اصطفافاتٌ بين طرفَين في الدولة الواحدة والمدينة الواحدة، ومجال العمل الواحد. لم تعُد “إسرائيل” احتكاراً أميركياً أوروبياً، مُصاناً من الاتهامات بالعنصرية. أصبحت الانتقادات تنال منها ومن وجودها. ولم تعُد فلسطين قضية إسرائيلية، ولا قضية الشرق الأوسط، أو قضية عربية وإسلامية فقط، باتت فلسطين قضية عالمية مختلَف حولها، لكنّها أصبحت قضية ضمير إنساني.
حربٌ أُخرى تُخاض اليوم في ساحات متعدّدة من العالَم
كسبت حركة حماس الإعجاب بجُرأة مقاتليها وشجاعتهم، وما أنجزته عسكرياً من انتصار، لم يكُن متوقَّعاً بهذا النجاح، وإن لم يُوفّرها العالَم من الاتهام بشنّ حرب تستدعي من الإسرائيليّين الدفاع عن أنفسهم، ما أكسب “إسرائيل” تعاطُفاً بدا هائلاً، تحت تأثير هزيمتها المروّعة خلال ساعات لا أيام. أُدينت حركة حماس من أغلب دول العالم، حتى من بعض الدول العربية، بما يقارب الإجماع. لم يدُم ذلك طويلاً، سرعان ما بدأ يتخلخل ويتآكل مع استمرار الهمجية الإسرائيلية، ما سلّط الأضواء على “إسرائيل” كدولة عدوانية، دولة فصل عنصري، دولة قتل أطفال وتشريد مدنيّين، وقصف مستشفيات وسيارات إسعاف وأطبّاء وجرحى، وتدمير مساجد وكنائس، وتحويل أحياء كاملة إلى خراب ودمار؛ ليس في تقارير صحافية مكتوبة، بل باتت، بعد تجاهُل وامتناع، تقارير بالصوت والصورة على مدار الساعة، في جميع محطّات الإرسال والأقنية التلفزيونية.
كان في دفاع حكومات أميركا وأوروبا عن “الردّ” الإسرائيلي الهمجي على شعب غزّة، تجاهُل متعمَّد للكارثة الإنسانية، والتهاون على تجاوزات إسرائيلية باتت تنحو إلى حرب إبادة، أبدى خلالها الأميركان الدعم المطلَق، والحكوماتُ الغربية الصمتَ، وغضَّ الطرف عن حجم الدمار، وعدمَ الاهتمام بقتل الآلاف من النساء والأطفال، وكأنّها حرب نظيفة، سَوّق لها الإعلام الإسرائيلي، وكان بغياب ملحوظ من تغطية المراسلين الغربيّين، بإصرار من الجيش الإسرائيلي على عدم السماح لهم بنقل وقائع الحرب من داخل غزّة إلى العالَم. أمّا الإعلام الغربي المُرافق للجيش الإسرائيلي، فكانت تقاريره مراقبة، وفَاقَ بتحيُّزه الإعلام الإسرائيلي نفسه، فلم يعُد الإعلام كاشفاً، بقدر ما كان تغطيةً بامتياز على جرائم “إسرائيل”، وإن تمكّنت وسائل إعلام عربية من نقل حقائق مجازر الموت اليومية.
باتت فلسطين قضيةً عالمية وقضيةَ ضمير إنساني
سابقاً، كان الهدف المعلَن في اجتياح غزّة القضاءُ على حركة حماس، بقصد إتمام السلام مع الفلسطينيّين، الذي تقف أمامه المقاومة الفلسطينية عائقاً يجب التخلّص منه. لكن بعد عملية السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، أصبح لا يقتصر على استئصال حركة حماس فقط، وإنما إغراق غزّة في الموت والدمار، مستهدفاً بالدرجة الأُولى المدنيّين العزّل، متعمّداً قتل الأطفال والنساء، مع حصار محكَم، أدّى إلى منع الكهرباء والماء والدواء والوقود. القصد منه التمهيد لتهجير الفلسطينيّين، بدايةً من غزّة، كجزء من حملة التطهير العرقي المستمرّة منذ عام 1948. أوضحُ من عبّر عنها، بالإضافة إلى نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، وزيرة الداخلية الإسرائيلية السابقة أيليت شاكيد بقولها إنّ “إسرائيل” بحاجة إلى تهجير مليونَين من الأهالي. بعد دكّ مدينة خانيونس وتسويتها بالأرض، سنستغلّ هذا الدمار، لوضع الدول المجاورة أمام الأمر الواقع، ما يرتّب على كلّ دولة استقبال حصّتها من المدنيّين الفلسطينيّين، إذا أرادوا أن يُنقذوا أرواحهم، ولا حلّ لغزّة سواه.
ليس هذا الحلّ ببعيد، ولا مستبعَد، ما دامت امتيازات القوّة الإسرائيلية معلنةً وليست خافية، فالجيش الإسرائيلي مجهَّز بمقاتلات “إف 16” وطائرات الهليكوبتر الأباتشي، والقنابل الذكية ودبّابات الميركافا والمدمّرات البحرية… مقابل شعب لا يملك قوّات جوية، ولا سلاح بحرية، ولا مدرّعات ودبّابات، ولا وحدات مدفعية، ولا أسلحة ثقيلة، ولا جيشاً نظامياً. ليس لديه سوى ما تتفتّق عنه أدمغة المقاومين من أسلحة كصواريخ الياسين وغيرها، والذكاء البشري لاختراق الحاجز الذي يفصل غزّة عن محيطها، وتعطيل القبّة الحديدية. ولا يتمتع، أسوةً بالإسرائيليّين، بمساعدات بمليارات الدولارات ترصدها أميركا لهم، ولا من يزوّدهم بأحدث الأسلحة، كما لا هبات وخوّات تنفحهم بها أوروبا. كما أنّ ما يجعل غزّةَ مدينةً مفتوحة للعربدة الإسرائيلية العددُ الكبير من المجرمين الذي تضمّه الحكومة الإسرائيلية والكنيست.
مهما كانت نتيجة هذا الصراع الحالي، فلن يُختتم بسهولة، إن لم تكن له نهاية مشرّفة على الأرض، سوف يبقى إلى يوم الدين. ولا بأس بتذكُّر عندما سُئل تلامذة إحدى المدارس في غزّة عمّا يريدون أن يصبحوا في المستقبل، فأجاب 71 بالمئة منهم أنّهم يريدون أن يصبحوا شهداء. طبعاً، نحن نريدهم أن يعيشوا حياتهم، إنّ الحياة تستحقّ أن تُعاش، لكن هل يسمح لهم العالَم بأن يعيشوا؟
على كلّ حال، استطاعت القضية الفلسطينية تحقيق إنجاز مهمّ جدّاً لحساب الحقيقة، لم يعُد العالَم يعرف فقط، بل بات الناس يتابِعون، ويخرجون للتظاهر والاحتجاج ضدّ حكوماتهم المتواطئة، ومواطنون أميركيّون اتّهموا إدارتهم بأنّ الفلسطينيّين يُقتلون بأسلحة أميركية الصنع وبأموال ضرائبهم، وارتفعت أصوات كثيرة في أوروبا لا تُعفي حكوماتها من الانحياز الأعمى لـ”إسرائيل”، إلى حدّ الخنوع المُهين.
ماذا كانت دلالة هذه الاحتجاجات؟ يُسجّل جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في “جامعة شيكاغو”، بناءً على متابعته لمركز أبحاث إسرائيلي رصَد الاحتجاجات في جميع أنحاء العالَم خلال العدوان على غزّة، أنّ 95 بالمئة يؤيّدون فلسطين و5 بالمئة فقط يؤيّدون “إسرائيل”، بينما ذكر موقع “أكسيوس” الأميركي أنّه على الصعيد العالمي، وحتى 16 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، كان هناك 210 آلاف منشور تستخدم هاشتاغ “ادعموا فلسطين”، و17 ألفاً فقط تستخدم هاشتاغ “ادعموا إسرائيل”.
لن نناقش هذه النتائج، ولن نتّخذها حجّةً، مع أنّ المركز الأوّل إسرائيلي، والثاني أميركي، لكنّها تشير إلى تحوُّل ملموس ضدّ “إسرائيل”، وتؤكّد أنّ كثيرين يعتقدون فعلاً بالحقّ الفلسطيني ويرفضون ادّعاءات السياسيّين الإسرائيليين وأكاذيبهم.
العالَم يتحرّك، فلسطين قضية ضمير إنساني، ولا بدّ من العدالة لشعب فلسطين.
-
المصدر :
- العربي الجديد