في ستينيات القرن الماضي، سيطر شعار “من أجل عالم جديد” على حركات الشبيبة في بلدان العالم الرأسمالي، وبشكل محدود في العالم الاشتراكي. نشطت هذه الحركات في أميركا (نيويورك) وفرنسا (باريس) وتشيكوسلوفاكيا (براغ)، وتحلّت بالمثالية، فالشباب الذين كانوا عنصراً فاعلاً فيها، وهيمنوا عليها، كانوا مثاليين. في هذه السن المبكّرة، قبل التخرّج من الجامعة، والالتحاق بسوق العمل، إن لم يكونوا مثاليين، وتأخذهم أفكارهم إلى المساواة والعدالة الاجتماعية، وتحلّق أحلامهم إلى حدود تغيير العالم، فلن يكونوا شبّاناً.
كان المزاج السياسي المخيّم على العالم مواتياً للانتفاض ضدّه، وأوضح ما يكون في الخلل الذي ضرب دولاً كبرى، وكان توازن العالم معتمداً عليها. ففي أميركا خرجت مظاهرات عارمة من الشبّان، في احتجاج على الحرب في فيتنام، البلد الفقير، الذي كانت القاذفات الأميركية تلقي فوقه يوميّاً مئات الأطنان من القنابل وتوقع مئات القتلى. بينما كان الشعب الأميركي لا يكفّ يوميًا عن استقبال توابيت قتلاه الشبّان، في حرب بدت بلا نهاية، تنشر الخراب والموت بلا جدوى سوى في المزيد من المآسي.
لم تستجب الحكومة الأميركية للمظاهرات، فاستمرّت وبلغ انتشارها وتأجّجها حدّاً شجّع الشبّان على القول لكل شيء: “لا”، ما أنتج ظاهرة الرفض، ومعها حركات الهيبّيين التي تمدّدت بسرعة كبيرة في مدينة نيويورك. تميز الهيبّيون بشعورهم الطويلة وملابسهم المهلهلة، وأغانيهم وموسيقاهم، وأصبح لهم مشاهير من الكتّاب والشعراء.
أصرّت تجمّعات الشبيبة على عدم تغييب الإنسان لصالح السلعة
بينما اندلعت في باريس ثورة الطلبة، تحت راية “الحق في التعبير عن الرأي”، واتخذت الاحتجاجات دليلاً لها في رفض العالم القائم، ولوّحت المظاهرات بالعنف، فأقيمت المتاريس، رافقها رميُ الحجارة في تصدّيها للشرطة، والاستهتار بالتقاليد، فكان من مظاهرها تناوُل المخدّرات والنزوع نحو قدرٍ أكبر من الحرية الجنسية. تمركزت الحواجز في الشوارع، وتحوّلت قاعات الجامعة والمسارح إلى فسحات لعقد الندوات وإلقاء الخطابات الثورية. انضمّ العمال إلى الثورة، وأعلنوا الإضراب العام في البلاد. وانضمّ إليها مفكّرون معروفون مثل جان بول سارتر وميشيل فوكو. بدا وكأنّ البلاد مقدّمة على ثورة اشتراكية في قلب أوروبا الديمقراطية، تحت لواء “العلم الأحمر”. ما وضع السلطة في حالة تأهُّب.
في حين شهدت براغ، العاصمة التشيكوسلوفاكية، ربيعاً لا نظير له في البلدان الاشتراكية، أطلقه القائد الشيوعي التشيكي ألكسندر دوبتشيك، طالبَ فيه بـ “اشتراكية ذات وجه إنساني”، ما يعني، في الواقع، الابتعاد عن “الأخ الأكبر”، أي السعي للتحرُّر من الارتباط بروسيا من دون قطع الجسور معها. أجابت موسكو بإرسال أرتال كبيرة من الدبّابات وعشرات الآلاف من الجنود من أجل إعادة هيمنتِها.
قام ربيع براغ وازدهر على عاتق الشباب التشيكيين، وكانوا الأساس في حركة احتجاج ضد “اشتراكية الدولة” و”ديكتاتورية الطبقة العاملة”. لم تكن ظروف التاريخ وسلطة الاستبداد تسمحان بأن تؤدّي الحركة إلى نتيجة ملموسة على أرض الواقع.
أجمعت هذه الحركات الشبابية الثلاث على التعبير عن التحرّر من الحكومات، والدولة المتكلّسة، وتحريض المجتمع على إجراء تغييرات جذرية. أظهرت الشعارات المطروحة النزوعَ إلى يوتوبيا لا تخفي الحلم بإعادة صناعة العالم من جديد، وكان لا بدّ من أن يخالطها صراعٌ مع الأجيال السابقة، وانتقاد ما توافقت مجتمعاتهم على ما اعتبره الشبّان إنجازاً عقيماً، كان مدمّراً للحريات، ويحيل المجتمع إلى الاغتراب. فكان الاحتجاج على “نمط الحياة الاستهلاكي” وتحوُّل كل شيء إلى سلعة، رغم أن الحكومات نشدت تحقيق مجتمع الوفرة والرفاهية.
كان الإنسانُ الشرطَ الذي أصرّت تجمّعات الشبيبة على عدم تغييبه لصالح السلعة؛ الإنسان أوّلاً وأخيراً، عبر تحرير الطبيعة الإنسانية من متاجرة السلطة بتوجّهاتها ورغباتها وقيَمها. وعلى الرغم من التلاقي والتوافق بين الحركات الثلاث، اختلف ربيع براغ عمّا شهدته أميركا وفرنسا في الافتقاد إلى نمط المجتمع الاستهلاكي. كان الجزء الذي لا يُستهان به هو الاحتجاج ضد “الرفوف الخاوية في المخازن”.
اليوم، بعد مضيّ عقود على حركات الشبيبة التي ربحت جولاتها الأولى، وشكّلت رصيداً قويّاً من الحرية في فرنسا ــ أصاب جيرانها من الدول الاشتراكية سابقاً، ذهبت بها إلى الديمقراطية أيضاً ــ يجب تسجيل فداحة خسارتها، في الانتصار الكاسح لنمط الحياة الاستهلاكي في العالم.
اليوم، كيفما التفتنا، نلاحظ العالم وقد سجّل تراجعاً عمّا حلمت به الشبيبة قبل عقود. تراجع يشهد عليه انتشار الهوَس بالاستهلاك لدى الكبار والشباب والصغار، ما يتعدى الكفاية إلى اللهاث وراء التخمة والاستعراض وصرعات الأزياء والموسيقى ومسلسلات الجريمة والألعاب الإلكترونية وأفلام البورنو، في عالم أصبح فيه قمع المظاهرات والاحتجاجات مفروغاً منه، ويتحرّك بالحروب والمجازر والاغتيالات وانفلات العنصريات، وترسُّخ الديكتاتوريات، ويستهلك جميع أنواع الأسلحة من الرصاص إلى القنابل والكيماوي… ضد الإنسان.
-
المصدر :
- العربي الجديد