لا تُختصر الرواية بالتشويق، لكن منذ تنبّه الروائيون إليه، اعتبروه استثماراً جيداً، فكان الحب الرومانتيكي عامل تشويق، قمة الإثارة فيه انتحار العاشق، وربما العاشقان. طبعاً الموضوعات غيره كثيرة؛ دسائس القصور، الانتقام، الإخلاص، الوفاء. كان الحب هو الموضوع الأكثر إقبالاً، يكمن فيه السحر الجاذب إليه، ولو كان الموت أكثر أهمية منه، لكن لا غنى عن الحب، كأنه التوابل التي لا تستقيم رواية من دونها.

لم يكن للرواية الفضل ولا الأولوية في اكتشافه، سبقها المسرح، ولنا في شكسبير وغيره قدوة في الحب والخيانة والعقوق. عندما جاءت السينما، كان هذا النوع من التشويق بحكم الاعتياد قد استهلك، ولم تكن بحاجة إليه، فالسينما كانت صامتة، وعندما تكلمت لم ينجدها الكلام بالتشويق، كانت قد وجدت نبعها الذي لا ينضب.

حسب طبيعة السينما، لا يكمن التشويق في الصورة، بقدر ما يكمن في الحركة، كانت رؤية مبارزة، أو قطار، أو عمّال خارجين من مصنع؛ مأثرة لهذا الفن الوليد. منذئذ لم تكف عن الحركة، ولم يقنع بالأرض، غادرها على مركبة فضائية الى القمر في أفلام جورج ميليه الأولى، بعدها لم تتوقف المركبات الفضائية عن غزو الفضاء الخارجي. وفاقت الرواية التي تعقد مغامراتها بين دفّتي كتاب، والمسرح الذي يعقدها بين ثلاثة جدران.

“كيف حافظت الرواية على قدراتها التشويقية أمام السينما؟”

أدركت السينما قدراتها الحركية الخارقة، فاستخدمتها في أفلام الغرب الأميركي، ولم تستغلها في أفلام الجريمة، فقد هدأت من الحركة، وبالغت بالعنف والصمت والظلال.

في العقود الأخيرة من القرن العشرين، تنبهت السينما إلى أنها تعاني حالة من السكون تكاد أن تقضي على مسيرتها، فطورت الحركة برفع سويتها بما يتناسب مع السرعة في العصر الحديث، فاعتمدت المطاردة بالسيارات، وأصبحت أساليب تصادمها وتحطيمها فناً قائماً بذاته، قلما يخلو منه فيلم، حتى أن قصص الحب أصبحت أكثر إثارة مع فخامة السيارة وسرعتها وقدراتها التقنية. مع تقدم الخيال، تفوق ذكاء سيارات الأفلام على عقل الإنسان.

أوقعت السينما منذ ظهورها الرواية في مأزق، ليس في حركتها المجانية، وإنما في روعة الصورة وجمالياتها، بدت أكثر تعبيراً من الكلمة، أي منظر طبيعي في غابة، في ما لو كتبه روائي مرموق بارع في الوصف، لن يعادل الكاميرا، حتى أن وصفه يبدو مملاً جداً بالمقارنة مع المشهدية السينمائية، ومن دون أي تكلف في اللغة.

السؤال لماذا حافظت الرواية على قدراتها التشويقية، وما زال الملايين يقرأونها بمتعة وشغف. لن ندخل في التفاصيل، يكفي القول إن السينما جهدت في نقل الأعمال الروائية العظيمة مثنى وثلاث ورباع إلى الشاشة، ودائماً وليس غالباً أخفقت في مضاهاة الأصل الروائي، فالرواية تدخل إلى أعماق النفس الإنسانية، تلك التي تقف السينما على عتبتها دونما تحقيق نجاح في تخطيها، لا أكثر من محاولات تتوخى تلمسها.

فليفخر الروائيون، عالم النفس الهائل، المغلق على غيرهم، انصاع لهم.

اقــرأ أيضاً