هَيمن التيار اليساري على نحو ثلاثة أرباع القرن العشرين في نصف العالَم. كان تيار العصر الجامح، فالسياسي والمثقّف والصحافي لا يكون تقدُّمياً إن لم يكن اشتراكياً، والأفضل شيوعياً. وبفضل سريان اليقين اليساري لدى المثقّفين والمتعلّمين وأنصاف المتعلّمين، وطبعاً العمّال والفلاحين، أصبح الاشتراكيّون أفضل من غيرهم فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، ووَصفوا أعداءهم في الوطن، سواء كانوا في السلطة أو مطارَدين ومساجين ومنبوذين، بالرجعيّين والعملاء والخونة والمتآمرين. أمّا خصومهم في البلدان الأخرى، فكانوا على صراع معهم.

في ذلك الوقت، في أغلب بلدان عالمنا العربي، لو أنَّ أحداً تجرّأ على النظام السوفييتي أو المادية التاريخية وصراع الطبقات لاتُّهم بالجنون، وحَكم على نفسه بالإيداع في مصحة للأمراض العقلية، لن تكون سوى المعتقل. يستحيل أن يغامر مثقّف تقدُّمي في توجيه بعض الانتقادات للمغالاة في تقديس الدين اليساري، وأن يتعدّى مثقّف يميني على الفكر الصحيح، ولو كان مدعوماً من الإمبريالية، واتهام البلدان الاشتراكية بأنها أنظمة استبدادية، وإن امتلك الأدلّة والبراهين.

” أغفل اليسار أنَّ المستقبل خزّان إمكانات لا يمكن توقُّعها”

تعاطف أدباء ومثقّفون أوروبيّون مع الشيوعية، فزاروا بلدانها، وفوجئوا بأحوال النعيم الاشتراكي. لم يَخف عليهم أنَّ الشعب يعيش في حالة رعب وشظف. ما اطّلعوا عليه جسّد الحكم الدكتاتوري بكامل مواصفاته؛ إذ من يستطيع إغفال عشرين مليوناً فقدوا أرواحهم بسبب تجاوزات ستالين الدموية، وفي الصين ذُبح ما بين عشرين إلى ستّين مليون إنسان في الثورة الثقافية، بينما تتحكّم أجهزة المخابرات بشعوب أوروبا الاشتراكية، عدا أنّ البلدان التي بدأت السير على هذا النهج، كانت تُبشّر بالمصير نفسه، سواء في كوبا والصومال، أو إثيوبيا… كذلك البلدان التي أرادت التخلُّص من ظلم الفوارق الطبقية، جرى استباحة كلّ من اشتُبه في أنّهم من النظام القديم.

دفاع الدكتاتوريات عن مبادئها، أي سلوكياتها، كان جامعاً مانعاً: إذا كانت الأنظمة الاشتراكية قاسية، فمن أجل الشعب، وإذا كانت حاقدة، فعلى أعدائه، كما أن الاستبداد لا يطاول الشعب، بل العملاء والخونة. أمّا الرأسماليّون فسيّئون وجشعون، لا يقلّون عن اللصوص في نهب شعوبهم الخاضعة لسطوة رأس المال، والنظامُ الرأسمالي وضع مقدّرات البلاد في يد حفنة مِن تحاُلفٍ يضمّ السياسيّين ورجال الأعمال.

عبّرت الاشتراكية عن قدراتها بشكل عملي على تحقيق قسط لا بأس به من العدالة الاجتماعية، لكنها أفرزت أبشع نُظُم الطغيان. كانت فرصة ضائعة، أهدرت حلم الإنسانية في حياة أفضل، وقصفت أعمار أجيال من البشر. وإذا كانت الرأسمالية قد حاولت إصلاح أخطائها ونجحت في الكثير منها، لكنّها كانت تحتوي على خطأ جوهري يصعب إصلاحه، من ناحية أنها نظام يقوم على التنافس غير المضمون النتائج، تنافُس يبني ويهدم، شرِه إلى الاستئثار بالمال والسلطة، لا يتوّرع عن شيء، ولو كان الاجرام.

من جملة أخطاء اليسار استخدامهم التاريخ لتأكيد انتصاراتهم، وإبراز قدرتهم على التكهُّن بالمستقبل، فزعموا أنهم يعرفون الطريق الذي تسير فيه البشرية رغماً عنها، وإلى أين يؤدّي؟ كان الاعتقاد السائد أنَّ البشرية لا محالة ذاهبة إلى الشيوعية.

أغفل اليسار الشيوعي في قراءته للتاريخ، أنَّ المستقبل خزّان إمكانات لا يمكن توقُّعها، فالتنبُّؤ به لا يماثل تنبّؤ العرّافات ولا الاسترشاد بالأفلاك والنجوم… هل توقّع اليسار انهيار الاشتراكية، وبزوغ ثورات لا تخطر على بال كثورة الاتصالات أو ثورة المعرفة، وثورات أخرى تستعجل الظهور؟ للأسف جميعها، لم تُلغ الثورة ضد الاستبداد، وإن كانت تحيلنا كلّها إلى الثورة الأصل: العدالة.

إن لم تحمل الحياة قدراً لا غنىً عنه من العدالة، فماذا تكون؟ ليست السياسة احتكاراً للسلطة والثروة، يبقى السعي إلى تحقيق قدر من المساواة حقّاً مطلقاً للبشر، لا ينازعهم عليه سوى الطغاة.