يحب الإنسان أن يكون كما يريد هو، فتتأبى الحياة وتصوغه كما تريد هي. يتمنى هو وتتمنى الظروف، ينازل الظروف في حلبة الواقع فلا يلبث أن يندحر مهزوماً. ليس بالضرورة أن تعني الهزيمة الموت أو حتى الفشل، بل مجرد نجاح محدود مسلوخ البهجة. فالإنسان قد ينجح أحياناً، ولكن نجاحه يأتي معولباً ومدروساً لا يهدد بنى سياسية واجتماعية تقولبت لكي تطحن فردانيته وقدرته على الشفافية والصدق مع كينونته. إن استتباب القهر يستلزم تجريد المقهورين من ذواتهم لكي تصيبهم لعنة “حيونة الإنسان” بلغة ممدوح عدوان، فينقادوا بدل أن يقودوا وتموت فيهم المبادرة، ويرخي القهر عليهم بسروجه ويركبهم كالدواب. التغيير مرفوض ودروب الحرية مسدودة.
هذا هو الحال الذي نجد عليه بطل رواية “المترجم الخائن” للأستاذ فواز حداد. حامد سليم أديب ومترجم موهوب ومجتهد، لكنه مثل كل الأدباء والفنانين فيه لوثة جنون. فهو يرتكب خطأ يحيرنا نحن القراء عندما يترجم رواية عن الأدب الانكليزي فيغير في خاتمتها بطريقة تسره وترضي رأيه لكنها تخالف الأصل وتبدل فيه دونما وجه حق.
يقع حامد فريسةً لعصبةٍ من الأدباء أتباع السلطة طالما تربصت به، فتنال منه ولا ترحمه، تضع نهايةً سريعة لصعود اسمه في سماء الأدب فيلجأ للتقية والمداراة ويتابع مسيرته الأدبية بالأسماء المستعارة حتى ينشطر إلى ثلاثة: حلفاوي وحلفاني وحفلاوي. يعاني حامد من الانفصام الذي نعاني منه جميعاً، وهو – مثلنا جميعاً أيضاً – يستمر بالحياة محاولاً أن يقنع نفسه أن الأمور تسير على طبيعتها، وأنه ما يزال هو نفسه والأمور على خير. من منا لا يقدم تنازلات حتى يستمر بإعالة أولاده ولا تتخطفه المافيا، سواء كانت مافيا السلطة أو مافيا الأدب العجيبة التي نقابلها في الرواية؟
تفضح الرواية عالم الثقافة والمثقفين في سورية قبل الحرب الأخيرة وتثبت نظرية الكواكبي في أن الاستبداد يفسد كل مناحي الحياة بما فيها الأدب والفكر. فالأدباء والنخبة المثقفة في عالم البعث والأسد ليسوا أكثر من “ضرّيبة تقارير” ومنتفعين صغار ديدنهم الكيد ببعضهم البعض والسعي وراء منافع شخصية دنيئة ممالئين سلطة القمع، متجاهلين رسالتهم الاجتماعية والإنسانية في تنوير مجتمعهم وفتح أبواب الحرية لمواطنيهم وإن على صعيد الأدب والفكر فحسب، وهذا أضعف الإيمان الذي لا نجدهم يقومون به في الرواية ولا في الواقع. لا يتساهل فواز حداد مع شخصيات روايته من أدباء المخابرات، ومفكري الوزارات. تعلق إحدى شخصيات الرواية على دعارات الأدباء:
“يا صديقي، مهما حلق الأدب عالياً في الآفاق، أو غاص عميقاً في الوحول، لا يشفع للدعارة دعارتها، ولا من الشرمطة شرمطتها.”
لعلّ حداد لم يكن يقصد الكتابة عن المستقبل عندما نشر الطبعة الأولى لروايته عام 2008 لكن الحرب السورية التي بدأت عام 2011 جاءت لتصادق بشكلٍ كبير على طروحاته وتجعل روايته صامدة أمام اختبار الزمن، حتى بعد الافتتان الكبير الذي حصل مع انطلاق ثورة الكرامة السورية. فالنخب الفكرية والأدبية السورية انقسمت بين مبرر للنظام اتخذ صفه حتى آخر طلقة في صدر آخر مواطن وبين متمرد عليه غادر البلد ليحارب النظام القمعي بنفس القلم الذي طالما نافق له فيه في ماضي الأيام. لكن هيهات هيهات، فحتى أفراد الطبقة الثانية سقط الكثير منهم في إغواء معارضة خارجية فاسدة جاءت لتخدم أجندات الدول لا تطلعات الشعب، ما جعل بعض المثقفين يخونون الشعب مرتين ويبرهنون على فسادهم “وشرمطتهم” المضاعفة.
لكن الرواية نفسها غير معفية من الأسئلة الكبيرة التي تطرحها. فهل بالنهاية عمل الأديب هو أو يعكس الواقع ويجرده لنا لنضحك ونبكي على طريقة مسلسل مرايا لياسر العظمة؟ ثم يمضي كل منا في سبيله؟ هل بإمكان الرواية والأدب أن يكتبان خلاصنا بهذه الطريقة من المحاكاة العاجزة؟ فالكاتب الذي وجد نفسه إزاء صورة دميمة من الفساد والتحلل الأخلاقي والوطني في العقد الأول لحكم الأسد الابن لم يكن بمقدوره إلا أن يشرح المشروح ويكشف المعروف بتقية أدبية خجولة أهدتنا رواية أمتعتنا وسلّتنا لساعات ثم أعادتنا إلى نفس الواقع الذي يكابده معنا كاتبها. هل الرواية بشكلها الحالي هي ما يحتاجه هذا الجزء من العالم القاعد كسيحاً عند مفترق طرق الحداثة، الغائص في وحل الدكتاتوريات وكيلة المحتل الأجنبي لنهب الأوطان وإجهاض الوطنية؟
من الناحية الفنية تنحدر لغة الرواية إلى التعبير الفظ واللغة العامية في بعض المواضع، وهي هفوةٌ من المؤكد أن كاتبها المتمكن من لجام موهبته لم يكن عاجزاً عن تفاديها. كما أن امتدادها على 486 صفحة جعلها مترهّلة وأوقعها في فخ التكرار لشخوص ومواقف تحمل ملامح متشابهة كان من الأفضل تجنبها لإنفاذ الرسالة وعدم إفساد المتعة.
لكن الرواية مدوّنة أدبية كاملة تخبئ في طياتها ثقافة موسوعية للكاتب يقدمها لنا في مسحةٍ من السخرية اللطيفة تضحكنا وتنشطنا للاستمرار بالقراءة حتى آخر صفحة.