لا يحتاج من يريد التصدي للأزمة السورية إلى الجرأة ليتجاهل المأساة الإنسانية اليومية، الملخصة طوال العام الحالي بالبراميل المتفجرة، بعد استكمال آلات القتل كافة. يحتاج فقط إلى اللامبالاة والبلادة، الأكثر انتشاراً بين أصدقاء سورية وأعدائها. ومهما بلغ التعامي بهم، بحجة أن الحرب السورية أصبحت خبراً عادياً مألوفاً، لا يستثير الاهتمام كثيراً، وأن المجتمع الدولي والرأي العام، أظهرا عجزاً غير مسبوق تجاهها، ولا حل سوى التأجيل والامهال حتى تنضج الظروف المواتية، وكل ما طرح أو سيطرح حولها، حالياً بلا أفق، ليس سوى تعلات ليحق عليها الوصف بأنها أزمة معقدة جداً، تحتاج إلى سنوات وربما عقود، لكي تجد منفذاً صالحاً لتفكيك خيوطها المتشابكة، فمجريات السنوات الماضية، أنهكت أطراف النزاع، والدمار والقتلى، كانا الأكثر اقناعاً للنظام والمعارضة على السواء ألا جدوى من الحرب، لكنها مستمرة، مادامت الخسائر من نصيب المدنيين الذين اختاروا أن يكونوا حاضنة للثورة دونما تقدير للعواقب.

بصرف النظر عن هذه التقديرات المتعسفة، لكن لابد منها، فالحرب ذات سمعة سيئة في زمن حظي فيه الرئيس الأمريكي باراك اوباما بجائزة نوبل للسلام، ولتأكيد استحقاقه لها يسعى إلى تتويج نهاية رئاسته بانتصار على الصعيد الإيراني، بالعمل على إغلاق الملف النووي لصالح الشعوب المحبة للسلام وفي المقدمة إسرائيل. في الفترات الأخيرة تركزت طموحاته على استدراج إيران المعاندة للتوقيع على الملف النووي بتقديم حوافز إضافية إليها، أحدها وعلى رأسها دعم مصالحها في سورية، فمنذ البداية ألحق أوباما الأزمة السورية بالملف النووي، وأخضعها للمساومة، فهدد وتوعد النظام، ومن جانب آخر، حفظ خط الرجعة، وصرح عن عدم اقتناعه بالمعارضة السورية أو بتركيبتها السياسية، مؤكداً في الوقت نفسه على وجوب المحافظة على المعادلة الميدانية تمهيداً للحل السياسي، هذا لم يتحقق، بحجبه السلاح عن المعارضة، ولم تكن “المعادلة” إلا للاستهلاك الإعلامي، حتى وصلت محاولات استرضاء إيران، حسب تقرير لروث شيرلوك في صحيفة “ديلي تلغراف” عن مصدر وثيق الصلة بالإدارة الأمريكية قوله “تريد الولايات المتحدة تجنب قتل الإيرانيين الذي يحاربون في الصفوف الأمامية إلى جانب قوات الأسد”، وكان الأحرى أن يعمل حساب الأطفال السوريين الصغار العزل والذين يعانون من البرد، بدلاً من الميليشيات الإيرانية المدججة بالسلاح والشعارات مذهبية التي تحض على الفتنة. تذهب براغماتية أوباما إلى السرية، وطموحاته إلى حدود التذلل، وتصبح ضد الإنسانية، هذا إذا كان الشعب السوري محسوباً على الإنسانية.

قبل أيام، أشارت الشبكة التلفزيونية الأمريكية “سي إن إن” إلى أن أوباما ربما توصّل إلى أنه لن يكون بالمستطاع إلحاق هزيمة بمتشددي تنظيم “الدولة الإسلامية” من دون إزاحة الرئيس السوري بشار الأسد. هذا الخبر قد يسعد بعض الذين فقدوا عائلاتهم وبيوتهم من الذين يصدقون كل ما يقال في الاعلام الأمريكي، على أنه بشارة خير، لكن غيرهم سيصاب بالإحباط مجدداً، إذ لن يستطيعوا أن يبنوا عليه أي أمل، بعدما أثبت أوباما حتى في تصريحاته أنه لا يتورع عن التراجع عما يعد به، دون أن يرف له جفن. الخبر نفسه أصبح مثاراً لسخرية الكثيرين، لا سيما حين أعقبه تصريح لوزير الدفاع الأمريكي: “ليس هناك حل عسكري في سورية”. إذ لم يعد أحد يصدق قدرة أي حل سياسي على النفاذ إلا باستعمال القوة.

الفضيحة هي اخضاع حل الأزمة السورية إلى زمن غير محدد، بإرسالها عمداً إلى المجهول على الرغم من الكلفة البشرية الباهظة التي مازال الشعب السوري يتكبدها، لمجرد استعمالها ورقة مساومة في الملف النووي. من هذه الناحية، تأتي جهود الوسيط الدولي دي ميستورا، لتخفف من ارتفاع الكلفة البشرية. فمنذ بداية الأزمة كان النظام هو العقدة، بعدم قبوله أي تنازل مهما صغر، ولكي يقدم دي ميستورا مدخلاً مقبولاً للنظام، اقترح العمل على وصفة نجاح مجربة، وهي تجربة حمص، وعلى منوالها طرح مشروع تجميد الصراع في حلب، أي الاقتداء بالنظام. إذ من الممكن أن يعد انتصاراً تجميد الصراع فيها من دون توظيفه لمصلحة طرف، وتحويله إلى هدنة مؤقتة قابلة لأن تطول، ما يضمن استمرار تأمين وصول الامدادات الانسانية، وقد يفتح الطريق في مناطق أخرى لهدنات ومصالحات محلية، تبقى محدودة في مراميها الإنسانية، هذا هو نجاحها الأقصى. أما مخاطرها على الأرض، فقدرة النظام على التلاعب بأي شيء قد يخفف من وقع الهدنة، وتحويلها إلى جحيم أكيد.