استطاع نظام الأسد الشمولي التسلل إلى العالم الخاص للسوريين باستخدام الفنانين ذوي السمعة الأكثر انتشاراً وتأثيراً، كان مردودهم قوياً في زمن المسرح، والأكثر في الزمن التلفزيوني، لعبوا دوراً في الإيحاء ببلد يتمتع بقدر معقول من حرية التعبير، وديمقراطية مقيدة من طراز خاص، في بلد مقاوم وممانع يتصدى لأعتى الإمبرياليات. عندما اندلع الربيع السوري، بات من السهل الزعم أن ما يواجهه هو حرب كونية.

لم تكن التمثيليات التي رفعت عيارات انتقادها وحشيةَ أجهزة الأمن إلا هوساً من سلطة تعلن عن نفسها من دون خشية، حتى بدت السجون والقمع والقتل والتعذيب من طبائع الأمان، باعتبارها ثقافة تأديب وعقاب تعرض على القنوات الفضائية، بينما كانت في وجهها الآخر والحقيقي ممارسة الإرهاب على الناس حتى داخل البيوت، فلم تعد آمنة، كانت تزرع الرعب من خلال رسائل لا تخطئ التعبير: هذا ما يحدث في أقبية الأجهزة الأمنية. المفارقة أن التعذيب كان ينتقد على الشاشات، بينما هو مستمر على الأرض، بصورة أبشع وبعيارات قياسية لا حدود لها، لم تبلغها التمثيليات، فالتعذيب في الأقبية كان حقيقياً وحتى الموت.

المثير أن الخدعة جازت على الفنانين أنفسهم، الغالبية خادعوا أنفسهم إرضاء لأنانية نجوميتهم، فسوقوا مأثرة أنهم يقومون بعمل بطولي، بالتحرش بالخطوط الحمراء، واختراقها والتشهير بها، لم يسألوا أنفسهم مطلقاً، هل حققت إطلاق سراح معتقل واحد، أو أنصفت سجيناً بريئاً، أو منعت محاكمة صورية أو تعليق مشنقة من دون وجه حق؟ بالأحرى لماذا يسألون؟

من فرط ثقة النظام من عدم تجرؤ إنسان على التساؤل عن لغز حرية التعبير، خاصة أنها كانت لا تحصل على موافقة الرقابة، بينما ماهر الأسد يسمح بها، اللطيف مع الفنانين والفنانات، والسفاح مع المعارضين والثوار.

صار الناس يتعاونون من دون وعي مع القمع، فأصبحوا مقموعين فعلاً

هذه الحرية في التعبير كان تأثيرها مضموناً، فقد نجحت في إيقاع الرعب في النفوس، فإرهاب الدولة الشمولية لا يتحكم في الأجساد فقط، بل يتسلل إلى العالم الجواني للبشر، حيث يعيد التوجس تشكيل طريقة تفكيرهم، ولا يقتصر على الخوف من العقاب المفروغ منه، بل من احتمالية مراقبة القول أو حتى التفكير في أمر محظور، والأشد رعباً، عدم القدرة على التأكد إن كانت هناك مراقبة فعلاً. وهي خبرة استمدت من مخابرات ألمانيا الشرقية التي اقتبستها من النظام النازي الذي لم يحتج إلى مراقبة الجميع فعلياً، بل اكتفى بالإيحاء بذلك. وهكذا، بدأ الناس يُخضعون أنفسهم لمراقبة ذاتية صارمة، ويتّبعون سلوكيات وقائية: كلمات مشفّرة، صمت متعمد، تصرفات لا عقلانية ليس بأمر مباشر، بل نتيجة الخوف المنتشر.. صاروا يظنون أن للجدران آذاناً، وأن الهواتف مراقبة، وأن زملاءهم أو أصدقاءهم يرصدون كلامهم، والجيران يتنصتون عليهم.

ما كان يروع الناس ليس بالضرورة المراقبة الفعلية، بل عدم التأكد من وجودها. هذا الغموض خلق انفصالاً: جزء يرفض تصديق وجود المراقبة، وجزء آخر يتصرّف وكأنها واقعة فعلاً من باب الاحتياط، تحت تأثير الريبة من وجودها، فصار الناس يتعاونون من دون وعي مع القمع، فأصبحوا مقموعين فعلاً.

تغلغل الإرهاب الشمولي إلى أعمق مستويات النفس البشرية. ليس بالتعذيب فقط أو القوانين القمعية، بل تركز حول كيف غيّر الخوف الحياة الداخلية للناس، فالاستبداد لا يحتاج دائماً إلى استخدام العنف، يكفي أن يجعل الناس يعتقدون أنهم مراقَبون، ليبدؤوا بمراقبة أنفسهم، إلى حد أنه حتى أحلامهم لا تنجو من المراقبة.

سجلت دولة الأسد الشمولية في عهدها ميلاد المواطن الذي يراقب نفسه، لهذا كان من الطبيعي أن يطمح السوريون إلى تسجيل ولادة المواطن الواعي الذي يراقب الدولة. هناك فرصة سانحة اليوم، فالحرية في التعبير لا يجب إنكارها، وتنبغي الاستفادة منها، ليس بالتشكيك في كل شيء، وإلا انقلبت إلى شر فالت، وهو ما يلجأ إليه مثقفو الخراب.