لم يتأخّر ظهور المثقّف في بلاد العرب. ظهر مبكّراً مع الشيخ محمد عبده والطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي ودعاة النهضة الأوائل. كانت الذروة مع طه حسين وتلامذته، نشدوا النور والتنوير، وتدارُك الهوّة بين الغرب والشرق، ابتغوا بجميع اتجاهاتهم المتعدّدة، الانضمام إلى موكب الحضارة الإنسانية.
اعتقد المثقّفُ الوطني بعد الاستقلال أن النضال ضدّ العدو الخارجي قد انتهى بجلاء الجيوش المحتلّة، ولا مهام عاجلة وأساسية سوى بناء الدولة الوطنية. بينما تأجَّلَ تحرير فلسطين بدعوى أنه لا يمكن لكيان غاصب في بحر من العرب البقاء على قيد الحياة طويلاً، لكن سيُكرّس جهده لقضية الوحدة، ويعتبر العمل عليها من الأولويات، وذلك بديلاً عن التجزئة المصطنعة، فالدولة العربية الواحدة ضعيفة بمفردها، وقوية متّحدة مع غيرها. عدا أن مقوّماتها جاهزة؛ التاريخ واللغة والإرادة المشتركة. وما تأخُّرها إلّا لخضوعها لتجاذبات المحاور والأحلاف الدولية والسياسات الحزبية. بينما لم تُطرح الحرية، لماذا؟ الشعب أصبح حراً بالتحرُّر من الاستعمار عدّو الحريات.
أصبح مثقّفُ ما بعد الاستقلال في قلب العالم، فانحاز إلى الكتلة الغربية أو الكتلة الشرقية، وتبنّى خلافاتهما الأيديولوجية بعد الحرب العالمية الثانية، وطوال الحرب الباردة، وهناك من وقف محايداً، حسب صيغة الحياد الإيجابي، فشارك بقلمه، أو بصفته عضواً عاملاً في حزب سياسي. كان على قناعة مطلقة إلى حد التعصُّب لقضاياه القومية والتضحية من أجلها، مناضلاً من أجلها، وشديد الإيمان بها. لم يتوان عن العمل السياسي العلني، فتظاهر ولُوحق وسُجن، وأَسقط حكومات، وناصر انقلابات، وعارض حكومات برجوازية وعسكرية.
” اعتقد مثقّفُ بعد الاستقلال أن النضال ضدّ العدو الخارجي قد انتهى بجلاء الجيوش”
اشتدَّ ساعدُ الأحزاب الوطنية، ورفعت شعاراتها الكبرى، ونادت بتحقيق حتى المؤجّلة منها، وسجّلت انتصارات وإن كانت ملتبسة، خدعتهم إنجازاتها، ولم تكن أكثر من التوافق على قضية فلسطين، ورفض الأحلاف الأجنبية، وكان في تحقيق الوحدة بين سورية ومصر، إنجازها الأكبر.
تفاءل المثقّفون، فقد انتصرت أحزابهم القومية واستولت على السلطة، وكانت توقُّعاتهم عاليةً على مستوى انتصاراتهم، وبلغ التعاضد بينهم وبين السلطة حدّ تطابق أهدافهما المشتركة في الوحدة والحرية والاشتراكية، وبدأ حرق المراحل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ما بشّر بمتغيّرات جذرية لصالح القضايا القومية والطبقات المسحوقة. أمّا الحرية، فحُجبت عن أعداء الشعب.
بعد وقتٍ لم يطُل، فوجئوا باستيلاء الرفاق العسكر على الحزب والسلطة معاً، فأصبحوا مخيَّرين بين الاستقالة من مهامهم الوطنية، أو المشاركة في مأدبة التسلُّط. عاود المثقّفون النضال، ولم ينسحبوا من الساحة، إذ لم يحملوا قضاياهم ليتاجروا بها، أو يساوموا عليها، تشبّثوا بها ولو ذهبوا ضحاياها. لجأوا إلى العمل السرّي، فلوحقوا من جديد، وذاقوا مرارة السجون، وخرج بعضهم منها إلى القبر، أو قضى في التصفيات الدورية، أو جرى تيئيسه، وأَقلع عن العمل السياسي، فصمت وعاش في عزلة مع الرفاق المضطهدين أمثاله شهوداً على ما آل إليه النضال في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية.
ماذا عن الحرية؟ لقد أصبحوا من أعداء الشعب.
-
المصدر :
- العربي الجديد