من فرط انتشار المافيات في العالم، باتت عابرة للدول، وبلا جنسية محددة، أو بجنسية موحدة، تجمع بينها دولة “المافيا” العالمية. فالمافيا الإيطالية، لم تعد إيطالية فقط، بعدما توطنت في أميركا، اكتسبت الجنسية الأميركية ولم تتأمرك، كما لم تنقطع صلاتها عن موطنها الأصلي، مجرد أن أعمالها امتدت إلى المهجر وتوطنت هناك. بات لدى الكثير من بلدان العالم مافياتها الوطنية المحلية من الأثرياء ورجال الأعمال يتاجرون بكل ما هو ممنوع، أسوة بالأصل، تختلف عنها بنشأتها الحديثة، لم تستقل بتقاليدها بعد، مازالت في طور صناعتها. بينما المافيا الأم الايطالية وصنيعتها الأميركية، تطبعت مع الزمن بأخلاقيات تبدو حسب هوليوود من سلالة روبن هود أو اللص الظريف أرسين لوبين، مع أن ما سفكته من الدماء لا تتفوق عليه سوى الحرب بين الدول، فحروب المخدرات لا تهاون فيها، خاصة بعد امتدادها إلى بلدان أميركا اللاتينية، فاقمها النزاع على المنشأ والأسواق، حرب تداعت إلى حروب، أعمالها لا تقتصر على المخدرات فقط، وإنما الممنوعات بشكل عام والتي باتت تشق على الحصر، ما هو ممنوع في بلد مسموح في آخر، ولم تكن محبذة، والإقبال عليها شديد، إلا لأنها تجني أرباحاً خيالية.
كان لنجاحات المافيا، صدى حتى في سياسات دول تسعى للقضاء عليها، وتشن عليها الحملات من فترة لأخرى، دونما جدوى، بعدما تسللت إلى الدولة العميقة، وأصبحت جزءاً منها. ولم يعد يستغرب انتقال العقلية المافياوية إلى السياسيين المحترفين، فعدا أن رجال المافيا جادون في شرائهم، السياسيون بدورهم جادون في البحث عمن يشتريهم، لتمويل معاركهم الانتخابية. كذلك السياسيون الصاعدون القادمون من العصر الفاشي، لا يخفون جشعهم إلى سلطة، لا توفرها إلا عمليات مشبوهة، من التشهير بالمنافسين وتشويه سمعتهم، وربما القضاء عليهم. السياسة لا تبرر التعامل بهذه الأساليب الإجرامية، بقدر ما يبررها الإيمان بالقوة والمال، البديل المثالي للقانون.
إن في نزوع مثقفي الأنظمة إلى التسلط، توفره عقلية مافياوية، تنزع إلى سلطة، ولو كانت أدبية
حسبما يفترض، تعتبر الثقافة الدرع الحامي للمبادئ والمثل العليا، لذلك يعتقد أن انتقال العقلية المافياوية إلى الثقافة ينطوي على سر، ما دام أن الثقافة على عداء مع المافيا، غير أن الأسرار في عالما لم تعد أسراراً، فالسلطة إذا كانت الهدف، فالعقلية المافياوية تجد مجالها الحيوي بالانتشار في كل الجهات، فما بالنا إذا كان الهدف هو السلطة والمال معاً. كما أنه في مضمار الثقافة، إن لم يكن غالباً، الشهرة مطلوبة، وتعتبر خاصة في عصر الميديا، الداء الوبيل الفعال، يسعى إليه أدباء الأنظمة الفاسدة، يعتقدون أنهم أحق من السياسيين والممثلين والرياضيين والأثرياء، بالمجد والنساء والويسكي، بحجة أن الأدباء يفكرون، بينما الممثلون لا يفكرون، يصدعون فقط بتنفيذ ما يطلب منهم.
إن في نزوع مثقفي الأنظمة إلى التسلط، توفره عقلية مافياوية، تنزع إلى سلطة، ولو كانت أدبية، تعود عليهم بالمال، الذي بالكاد كان يسد رمق الأدباء، يعوضهم عنه الإحساس بالنزاهة والاستقامة، كان الاعتقاد أن ما يعانونه من شظف الحياة، من النوم على الطوى، وارتداء الملابس نفسها صيفا شتاء، ومقاساة الحر والبرد. هذا البؤس، كان وقود عبقريتهم، يهبهم البأس في مقارعة الظلم والظلام، وما كان أحلى الهوان في الانحياز إلى شعوبهم، كانوا رغم فقرهم ذوي كبرياء وأنفة. هذا في زمن البراءة الرومانسي.
هذا انتهى عهده، مع أن الأدباء ما زالوا كرماء النفس، لكن أصبح إلى جوارهم قلة مصطفاة مطواعة، قدموا خدماتهم إلى ذوي الشأن، كوفئوا عليها بمناصب ثقافية، ومُنحوا تسهيلات، استفادوا منها بعلاقات في الداخل والخارج، أدت إلى تشكيل شبكة تبادل خدمات مع أمثالهم. هذه المجموعات المختارة والتي تعتبر نفسها محظوظة، تشابهت مواقفها مع الأنظمة في الربيع العربي، وليس غريبا. ففي النظر إلى تاريخ المافيات بأنواعها، فرضت عليها طبيعة ارتباطاتها المشبوهة الوقوف ضد الشعب، فلم تساند أي احتجاج أو عصيان فما بالنا بثورة. كانت على الدوام مع مصالحها، التي هي مصالح السلطة ورجالاتها. إن المافيا في جوهرها مجموعة من رجال الأعمال تدير استثماراتها بعقلية الربح والخسارة، فكانت مصالحها مع النظام القائم.
مذ انطلق الربيع، تجمعت حلقات المافيات الثقافية دفاعا عن الدكتاتوريات، وكانت في الواقع تدافع عن نفسها، تحت شعار الدفاع عن الأدب، بفصله عن السياسة، وفسرت تآلفها وتعاضدها، بتنظيف الأدب من شبهات سياسية زعمت أنها على تضاد مع الفن الخالص، وكأن الثورة ضد الدولة الشمولية، وانتقاد الأنظمة طارد للفن.
هذه الثقافة ذليلة أمام السلطة، لكنها على خصومها شرسة، تستطيع تهميشهم وعدم الاعتراف بها إلى حد إلغاء وجودهم
مافيات الأدب عبارة عن أخويات يجمع بينها الشره إلى احتلال الواجهة الثقافية والهيمنة عليها، توفرها الفعاليات الثقافية المصطنعة، والعلاقات الشخصية الزائفة، والندوات الأدبية، عدا المظاهر من عقد ندوات وجوائز وتبادل المديح والتزلف. هذه الثقافة ذليلة أمام السلطة، لكنها على خصومها شرسة، تستطيع تهميشهم وعدم الاعتراف بهم إلى حد إلغاء وجودهم. لا تخفي نشاطاتها، على عكس عصابات المافيا الإجرامية التي تتعمد التخفي، بينما الأدبية تنشد العلنية، لأن الخفاء لا يصنع الشهرة، بل الدعاية والادعاء، وهو ما يجعل منها عصابات نوعية.
في هذا المقال، لم نتكلم عن الأدباء الذين يحملون الأدب على عاتقهم، ولو كان مظلوما، إنه الأدب الذي لا تصنعه الدعاية والعلاقات والخنوع والتزلف.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا