رسالة مؤثرة، تداولها ناشطون سوريون على شبكات التواصل الاجتماعي، قيل إنها وجدت في جيب سوري مهاجر، انتشلت جثته بعد غرق مركب يحمل مئات المهاجرين غير الشرعيين. الرسالة موجهة إلى أمه وحبيبته وأخيه وأخته يطلب منهم ألا يحزنوا عليه، ويتأسف لأن موته سيمنعه من تلبية ما وعدهم به، يختم رسالته على الشكل التالي:

” شكراً لك أيها البحر الذي استقبلنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكرا للأسماك التي ستتقاسم لحمي، ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي.

شكرا لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق، كل ساعة لمدة يومين.

شكرا لكم لأنكم ستحزنون علينا عندما ستسمعون الخبر”.

قد تكون هذه الرسالة الوداعية ليست من كتابة شاب غريق، لكن صاحبها على التأكيد يعاني من ويلات النزوح خارج سورية، ويصف واقع الحال، وقد يكون مصيره مماثلاً. ففي وقت مضى، شارك في الاحتجاجات الأولى، واعتقل أكثر من مرة، وأصبح على قائمة المطلوبين الدائمين، كان سيموت تحت التعذيب، أو بسبب الظروف السيئة في المعتقل، هاجر لأنه مهدد أيضاً في دينه من “داعش” وأشباهها. يبحث الآن كما حال الكثيرين عن وسيلة للجوء إلى أحد البلدان الأوربية، حيث سيجد عملاً، ويتمتع بحد من الأمان، يشجعه على أن ينسى انتماءه السياسي ودينه، أو يمارسهما في بلد لا تعنيه سياسة ودين هذا اللاجئ.

على الأغلب، كتبت الرسالة تحت تأثير حوادث غرق السفن التي تتردد أخبارها يومياً، تتميز السفن بأنها غير آمنة ومكتظة بأعداد المهاجرين، وتفتقر لمقومات شروط السلامة ولوسائل الاتصال الضرورية جداً في حالات الطوارئ لطلب الإغاثة، يحشر فيها اللاجئون في البرادات التي كانت تستعمل لتخزين السمك المجمد، ومخازن البضائع.

تصاعدت حوادث الغرق المتكرر في البحر الأبيض المتوسط، خلال السنوات الأربع الماضية، هرباً من الحروب المندلعة في بلدان الانتفاضات العربية، إضافة إلى المهاجرين من البلدان الأفريقية بسبب الفقر. مؤخراً بلغت ذروتها بعدما ضرب الموت رقماً قياسياً بغرق نحو 800 مهاجر، اجتمع على الأثر قادة الاتحاد الأوروبي، سعياً لإيجاد حل لمسألة الهجرة إلى بلدانهم.

قبل وقوع الحادثة الأخيرة، كانت أوروبا ترفض القيام بمهمات إنقاذ كبيرة مخافة أن يؤدي ذلك إلى تشجيع مزيد من الأشخاص على الهجرة، أبواب اوروبا ليست مفتوحة للهاربين من الموت ولا للشعوب الفقيرة. أصلاً لم يكن اضطرار الحكومات الأوربية التي اعتادت على هذه الحوادث إلى مناقشة مسألة الهجرة غير الشرعية بين فترة وأخرى، سوى تحصين القارة البيضاء من القارة السوداء.

في لفتة شاءها الاتحاد الأوربي إنسانية، ضاعف تمويل مهمة البحث والإنقاذ في المتوسط على أمل تقليص حوادث الغرق. لكن خيارات الحل لم تتجاوز مهاجمة المهربين وإقامة مخيمات للمهاجرين وهي خيارات تتطلب التفاهم مع ليبيا الرازحة في الفوضى، وتوافق دول الاتحاد، وفي هذا مشوار طويل.

لا تترك أوروبا أمورها دائماً للظروف، فهي تستفيد من الهجرة الشرعية واللا شرعية، لكنها تحت الخطر الداهم تبادر إلى اتخاذ تدابير لمعالجتها. تتوقع التقديرات أن 200 ألف شخص قد يصلون إلى شواطئها بحلول نهاية هذا العام. كما أعلنت المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة أن نصف مليون مهاجر قد يحاولون عبور المتوسط مما يهدد بمقتل الآلاف إن لم يتم التحرك لوقف منظمي الاتجار بالبشر.

حظ السوريين من المآسي هو الأكثر، بعد تكاثر القتلة في الوطن، فإضافة الى النظام بات هناك “داعش” وغيرهم من الميليشيات الإسلامية التي باتت تفرض قوانينها بحد السيف وقطع الرؤوس. الحرية التي طالب بها السوريون انعكست عليهم وبالاً وتفرقوا في مقابر جماعية تحت الأرض، وتشردوا فوقها في مختلف ارجاء العالم، رحلاتهم خارج سورية سواء كانت على اليابسة أو في البحر، معرضة للأخطار على الحدود والاحتجاز في السجون والضرب والاهانة والجوع، بينما قوارب الصيد أصبحت قوارب الموت في بحر كان على مر العصور بحر الحضارات الكبرى، قبل أن يصبح مدفنا للاجئين الفارين من الظلم والاضطهاد والحاجة إلى الأمان.

بالنظر الى القوانين الأوربية الحازمة، لا يرجى انصافٌ، إذ أن الانصاف يبدأ بمساعدة المهاجرين على العودة إلى بلدانهم، ما يكف حركة اللجوء الذي كان الغرب أحد أسبابها، بمباركتها وجود حكومات دكتاتورية سهلت استنزاف موارد بلدانها للمصالح الغربية، في سبيل الإبقاء عليهم. وتبدو دعوة الأسقف ماريو جريش موجهة إلى الحكومات الأوربية كي تتعامل مع قضية اللاجئين بدافع الحب، وليس القانون فحسب، قائلاً: “يمكننا أن نستمر في قراءة القوانين مثل المحامين لكن هذا لا يكفي”. إذ لا يكفي التنصل من الواجب الإنساني في التخلي عن البشر في محنتهم حين لا يجدون مأوى في بلدهم الأصلي، سوى الغرق في البحر.