ما زال كورونا حتى الآن محافظاً على موقعه، يُهدد العالم، ويقَاوم بالحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي، والكمامات. مزق الأواصر بين البشر، ورمى بهم إلى عزلة، لم يشهدها الانسان منذ الحرب العالمية الثانية، عندما سكن الناس الملاجئ من قصف الطيران. بعض المحللين شبه ما يجري بحرب عالمية ثالثة. بينما المتدينون من متأسلمين وغيرهم من الأديان، رفضوا اغلاق دور العبادة، فالمقدسات منيعة على الفيروس، عدا ان الوباء بشارة بحلول يوم القيامة، أما أصحاب التفكير التأمري، فكان الفيروس مؤامرة جلية تارة من الصين وتارة من امريكا، بينما توقع اليسار ما بعد الطفولي عودة البروليتاريا المظفرة للقضاء على رأسمالية دحرها كائن لا يرى بالعين المجردة.

قد تتيح لنا هذه العزلة، ما كتب عنه مرة الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال إن “مشاكل الإنسان تنبع من عدم قدرته على الجلوس وحده بهدوء يفكر في غرفة”. ما يحيلنا إلى أن للوباء جانباً إيجابياً، فقد هيأ لنا فسحة للتفكير في مشاكلنا وما أكثرها؛ فالغرفة متوفرة، والقدرة على الجلوس أفضل من الوقوف بانتظار شيء ما، قد يتأخر عن القدوم، ومضطرون إلى العزلة لوقت لم ينته ببضعة أيام، بل شطح إلى أسابيع، قد تتجدد إلى أخرى، وإن كان الأمل الا يتعدى كحد أقصى بضعة أشهر.

أما بالنسبة إلى الهدوء، فثمة معضلة، رؤوسنا تعج بالوساوس، على الرغم من الاحتياطات ووسائل التعقيم، والكثير مما ينصح وما لا ينصح به. حكاية الفيروس تتكرر على مسامعنا يومياً، وتتبدل من يوم لآخر، ومن دولة لأخرى. يبدو أن الدول نفسها لا تعرف، أو غير متأكدة.

قد لا نحظى بالهدوء، لسبب ليس هناك غيره؛ انهيال الشائعات والوصفات الطبية من الأدوية القديمة جداً إلى الحديثة جداً، وما تتفتق عنه نصائح أطباء متقاعدين، وقرائح معالجين مغمورين، وجدوها فرصة للظهور على وسائل التواصل والتبرع بوصفات مجربة ومضمونة مجاناً، بعضها بمقابل… وكلها بلا فاعلية أكيدة.

ولا يمكن اغفال توقعات المتنبئين الفلكيين، ما زالوا يتنبؤون حتى الآن، أو يستعيدون ما تنبؤا به في مطلع العام الجديد. فالظروف كانت تساعد على التشاؤم على أمل التفاؤل. المهم، جميعهم حسب مزاعمهم حذرونا من الوباء، لكننا لم نصغ إليهم. وماذا يعني؟ هل كان بوسعنا فعل شيء؟ يبدو أن الصين وحدها الدولة التي أصغت إليهم، وأخفت جهودها والضحايا عن العالم. ولها العذر، فهي في سباق مع الأمريكان، للقضاء على الفيروس في أراضيها، وتركت الأمريكان يتخبطون، وتركت معهم العالم كله في الحالة نفسها، وها هي تبيعهم الأدوات الطبية اللازمة من أقنعة ومعقمات وأجهزة كشف الطبي وميازين حرارة، على انها تبرعات ومساعدات، لكن بمقابل، قد لا يكون مادياً. عرف الصينيون كيف يستغلون الوباء.

لاشك أن هذا من مزايا الدولة الشمولية فهي لا تهمل حتى تنبؤات الفلكيين، مع أن للصين تقويم سنوي خاص بها، يعتمد دورة الشمس والقمر، فيومهم ١٢ ساعة، ولا يثقون بغير تنبؤاتهم، كما لديهم علم “التنجيم الصيني”، وابراجهم الصينية، ورغم هذه الخصوصية الصينية، فلم تعقهم عن الاطلاع على ما يفعله الآخرون، ولم تسمح للآخرين إلا بالفرجة على منجزاتها الاقتصادية الخارقة… طبعا عدا الفيروس.

أما اللقاح، فلا يُعرف عنه شيئا بعد، ما يعني أننا سنعتمد على مناعتنا الشخصية، أي على الحظ. ما يدعو إلى عدم الاطمئنان، فالظروف لا تدعو إلى التفاؤل، تنعكس على الأهالي عندما يفارقون أحباءهم، بينما أعداد الضحايا سواء كانت تتصاعد أو تتراجع، فالآلام لا تتوقف في مرافقة الضحايا إلى لحظاتهم الأخيرة، خاصة الأطباء والممرضات.

النتيجة؛ الفيروس قاتل.

ربما لو حاولنا التفكير في هذا الضجيج، لوفرنا فرصة لتجربة الاقتراح الباسكالي، ولو كان في ظل التباعد الصحي، مع أنه غير صحي لأحوالنا النفسية، والإحساس بخسارة التواصل مع الأقارب والأصدقاء، لا تعوض عنه وسائل التواصل الافتراضي. وإذا أردنا ألا نزيد من خسائرنا ونحولها إلى مكاسب حقيقية، فالفرصة سانحة للاتصال مع الذات التي أهملناها طويلاً، ربما سنوات، أو منذ دخلنا إلى الحياة العملية، وأصبحت لدينا مشاريع وطموحات، وهي فرصة تتوفر أحياناً قبل الموت بقليل، نقضيها في الندم، بعدما نكتشف أن الأوان قد فات على اصلاح أي شيء.

ماذا لو كان كورونا يوفر فرصة التعرف إلى أنفسنا؟ ماذا فعلنا؟ أين أخطأنا؟ كيف لم نحافظ على وعودنا؟ قد نكون كسبنا منصباً أو شهرة ومجداً، لكن ماذا عن الحماقات والخطايا وربما الجرائم والخيانات التي ارتكبناها؟

لا بأس، دعنا لا نبالغ كثيراً، لئلا نحمل أنفسنا أوزاراً لم نقترفها. هناك صناع الحروب، جرائمهم فاقت الكورونا، جاءت بهم الوراثة، في نظام جمهوري، دمروا بلدهم وقتلوا وهجروا الملايين. هل سيعترفون بأنهم شنوا حرباً على شعبهم واتهموه بالإرهاب، واستعانوا عليه بدولتين وميليشيات مذهبية؟ لن نتابع، لئلا نبدو وكأننا خرجنا عن الموضوع، لكننا في لب الموضوع.

فلنتصور أن هذه الكورونا قد تمنحنا إمكانية بداية طيبة، ما دام دائماً ثمة مجال لفعل أشياء جيدة. لو أن الانسان تأمل حياته، لأصلح شيئاً. ترى لو أننا جميعاً، فكرنا على هذا المنوال، ربما اختفت الحروب والفاقة والجوع والدول الشمولية والسجون والعمولات والمجرمون والقادة السفلة والساسة الأوغاد… على الأقل يمكننا تصور شكل أفضل للمستقبل، لا تتنبأ به أفلام الرعب ولا الخيال العلمي المدمر لأشكال الحياة في الكوكب، وربما الكواكب الأخرى.

رغم كل شيء، الخوف خيار سيء، مكاشفة النفس خيار جريء.

FacebookTwitterWhatsAppEmailنشر