حسب بعض القراء، الرواية الناجحة تتميّز بالتشويق، وهي صفة لا تخلو من التباس، إذ تضعف حسب بعض النقاد من فنية الرواية، بما أنها تتم على حساب الموضوع بالتحريض على المبالغة فيه. وإن كانت ميزة تحسب لصالح روايات الإثارة، فإنها نقيصة في الروايات الجادة.
تعد الروايات الجاسوسية والبوليسية والجنسية من روايات الإثارة، التي تشدّ اهتمام القارئ، بما تحوزه من وسائل تغريه على متابعتها. استفادت منها السينما الأميركية، إذ قلّما يخلو فيلم أميركي من الإثارة حتى باتت السينما لا تنفصل عن هذا المفهوم.
تحت زعم التشويق يضار العمل الروائي باستخدامه أساليب الإثارة الرخيصة، فالرواية من الدرجة الأولى لا تتورّط بالسياسة أو الجواسيس ورجال الشرطة والتحرّيين، والجنس بأنواعه غير السوية. لكن ماذا عن العالم الذي يطفح بالسياسيين الفاسدين، ومثلها بلادنا التي لا ينقصها الفساد، وتعجّ بالجواسيس المحليين والأجانب، وتغص برجال المخابرات، وبأصناف مافياوية محلية من ابتكار القمع كالبلطجية والشبيحة، عدا التسيّب الأخلاقي؟ هل تخسر الرواية من مكانتها فتنحطّ درجتها إلى مرتبة متدنية، وتوصم بالانحطاط كرمى لرواية ينبغي أن تكون خالية منهم، نظيفة من القتل، وبريئة من الفحش والتمثيل بالجثث؟
ليست الرواية منشوراً سياسياً، ولا قاموساً في الجريمة والعهر، أو موعظة أخلاقية، إنها بكل جلاء النظر إلى العالم والذات، والحياة بكل ما تحتويه من جرائم ومباذل، وسياسات ظالمة، وانحطاط أخلاقي… إن مشهدية روائية متعددة الجوانب والأبعاد، تطمح إلى الوفاء بموضوعها، تضع القارئ في صلبها، يعاني الحيرة والقلق، في اتخاذ موقف، أو دحض ما يقرؤه لاعتدائه على ما ألفه واعتاد عليه، ذلك مسعى لا يمارى فيها. فالرواية تجهد ليس في إمعان النظر إلى العالم بل واختراقه، بالتشويش على معتقداتنا، أو ما استقر في أذهاننا. لا يعني هذا أن الرواية تريد إقناع القارئ، هذا شأنه، إنما تحاول مجالدة الحقيقة، مهما كانت خطأ أو صواباً.
لا تقرأ الرواية للمتعة، ولا للترفيه عن النفس فقط، ولا لنسيان الجنون الذي نتعرّض له، أو الظلم الذي نرزح تحته، مع أنها قراءة مشروعة تماماً، فهي تمنحنا الشعور بأن العالم ليس كئيباً، ولا نحن مرضى نفسيين، وأن للحياة وجهاً آخر.
المشروع أيضاً إدراك أن الفن الجميل ليس على تضاد مع العدالة، والرواية ليست إما مع أو ضد. إن من عدم النزاهة، إنكار ما نراه يومياً من عنصرية وطائفية وإرهاب وقتل وتدمير، والحجر عليه بدعوى أن الرواية لا تتعرّض للسياسة، كأن ما نراه على شاشة التلفزيون، لا يجوز قراءته في رواية، لئلا تعيدنا السياسة إلى زمن الأيديولوجيات، كأن الرواية تغرّد في عالم من الصفاء والبهجة، والحب الطليق وهجاء كل ما يعيق تحرّر الجسد.
لهؤلاء الذين يتغنّون بالحب ويؤمنون به، طالما لم نتغلب على الكراهية، فلن تتحرّر أرواحنا، الحب وحده لا ينقذ العالم.
-
المصدر :
- العربي الجديد