هل يحق للأدب التذرّع بالحياد؟ هذا السؤال يشمل الكتّاب سواء كانوا شعراء أو روائيين، مسرحيين أو مؤلفي مسلسلات تلفزيونية. المثال الأكثر حضوراً، ما يجري منذ بدايات “الربيع العربي”. بعض الكتّاب يصرّون حتى الآن على عدم اتخاذ موقف صريح قبل انجلاء دخان المعارك، وتلاشي قصف المدافع، وهدوء جبهات القتال؛ الجانب المنتصر يحدّد موقفهم. أما إذا أرادوا الاحتجاج، فلا بد من عمل حساب للعقل، والتشبّث بمهنة اكتشاف منابع الحب والخير والجمال، فالسياسة ليست شأنهم.
إذا كان للسياسة وجه قبيح، فالدكتاتورية هي وجهها الأكثر فظاظة والأشد تدميراً، تعتدي على أجسادنا وأرواحنا ولقمة عيشنا، وتساومنا على أنفاسنا، كأنما وهبتنا الحياة، ومن الكرم ألا تحرمنا منها. فما نصيب الحب والخير والجمال في حياة أسيرة المعتقلات والسجون؟
هل يستطيع الروائي كتابة رواية نظيفة من أشباح الدكتاتورية؟ ألن يشوب ما يكتبه مسٌّ من الثقل المرعب للاستبداد، يتسرّب إلى نسيج عمله، سواء بمحاولة دسّه عمداً، أو ملامسته. هذا إن لم يستدرجه القهر والألم إلى أن يصبح منظّراً للبؤس، إن لم يكن لليأس، أو محرّضاً على الموت والثورة؟ ليست حياتنا وحدها في أدق تفاصيلها الصغيرة تتحكم بها أجهزة الأمن، كتاباتنا أيضاً ممسوسة بوسائل التعذيب وأدواتها الجبارة.
الكاتب ضد الدكتاتورية بالمطلق. وإذا كان حسبما يزعم لا يغفل عن مآسي الناس الذين يعيش بينهم، فلا يجب أن يتعامى عن مجرمين حقيقيين يشغلون أعلى المناصب، أطلقت أيديهم في القتل والنهب، مكافأة لهم على التهليل للدكتاتور، وتدبيج أبيات المديح لادعاءاته المسفّة، ومكرماته البغيضة، وكذبه المشين، وديمقراطيته الزائفة، وآرائه التي لا تعدم الركاكة ولا السخافة.
الدكتاتور ضد القانون والعقل والمنطق والحقيقة والعدالة والرحمة… فهو سليل دكتاتور، ويسعى إلى توريث البلد لدكتاتور. في دخيلته يحتقر شعبه، ولا يتصوّره إلا راضياً بخنوعه. لا يتورّع عن تحويل حياته إلى ظلام أو جحيم، إذا طالبه بالحرية والكرامة. لا يغيّر الدكتاتور جلده، ولو تظاهر بأنه طيب القلب على علاقة لطيفة مع الفنانين، وراقية مع الأجانب، والنساء يعجبن به، والجنود المغرّر بهم يموتون من أجله، والصحافة الأجيرة تشيد بإنجازاته. ليس ثمة دكتاتور متفرّد عن غيره، فالصناعة الرديئة نفسها، لا تتخلف عن النمط الدكتاتوري المقزز من سفهاء التاريخ، مآثرهم القسوة والجبروت، لا يتميز أحدهم عن الآخر إلا بدرجة الرداءة.
في بلاد أرخت الدكتاتورية عليها ظلّها المقيت، لا بد أن تصيب شظاياها الكاتب ولو كان يعيش في عزلة، فهو واحد من جموع هؤلاء الناس، والتذرّع بأنه مفكر، تشغله أزمة الوجود، أو الحقيقة، وربما الاغتراب والعدم… محض تجاهل لا جهل. وفي حال اضطر إلى الصمت، فالصمت احتجاج، لكن لا شيء يلزمه بالتصفيق للديكتاتور، أو التزلف إليه. وما انحيازه إلى المظلومين والعدالة، إلا لأنه إنسان مثلهم، يقاسمهم سعادتهم وشقاءهم، ولا يتميّز عنهم بشيء.
-
المصدر :
- العربي الجديد