للأدب عودة بين فترة وأخرى إلى عدوه الأكبر الرقابة، يفرضها منع كتاب، أو حملة شعواء على معارض الكتب، والتي أصبحت تقليداً سارياً منذ سنوات وحققت تقدماً، كانت خفية وأصبحت علنية، تدهم الكتب في أي وقت.
أحد أسباب الحديث عن الرقابة هو محاولة التعرّف إلى مبرراتها في المنع، سواء الكتب السياسية والجنسية، أو الدينية، أو كتب المذكرات والروايات… عدا كتب الطبخ والأبراج، مع أن تنبؤات الأبراج لا تدعو للتفاؤل أحياناً.
لن نعرف بالدقة لماذا المنع، وإذا عرفنا فسوف يستعصي على أفهامنا، دائماً لدى الرقيب أحجيات مستغلقة، ذلك لأن الرقابة متحولة، أي بلا معايير واضحة، وهي متغيّرة من زمن لزمن، ومن ظرف لظرف، وحسب المواسم، فما هو ممنوع اليوم، قد يسمح به غداً. وما يروق لرقيب، يزعج رقيباً غيره، وقد يدّعي الرقيب قراءة المتواري خلف السطور، ويكتشف مؤامرة تهدد أمن المجتمع. وأحياناً هي قضية مزاج بحت، ثمة ما يعجبه وما لا يعجبه. في الحقيقة لا حصانة للكتاب، ما دام معرّضاً حتى للأهواء.
” الكاتب ليس على عداء مع الأخلاق بل مع الزيف الاجتماعي، فهو أخلاقي بحكم موقفه الإنساني”
من المهين والمعيب وضع الكاتب في موقع الشبهة أسوة بالمجرمين أصحاب السوابق. وملاحقة الكتب من شرطة الآداب والمخابرات، بحيث يبدو المؤلفون وكأنهم مطلوبون للعدالة. إذا كان المجرمون يعاقبون لجرائم ارتكبوها، فالأدباء والباحثون يمنعون للقضايا التي يثيرونها، والأسئلة التي يطرحونها. ما يقض مضاجع السلطات النائمة والآمنة حول إشكالات الحياة والعيش، فتصبح التساؤلات جريمة، وإن لم ينص عليها القانون، لأنها تطال الوطن والسلطة والمجتمع والانسان والذات والآخر … وتدفع إلى التأمل والتفكير، وربما إلى التغيير.
تعيدنا الرقابة إلى مناخات البلدان الشمولية، حيت يتلصص الجميع على الجميع، وتتحكم الرقابة بالبشر. الشموليات الكبرى انتهى زمانها، وشيّعها العالم الى مثواها الأخير. أما البقايا، وهي الشموليات الصغرى التي ما زالت تمارس الرقابة حتى على الأنفاس، فلن يطول العمر بها، سترحل غير مأسوف عليها. وجودها الحالي مرهون بالحريات التي تعصف بالعالم، وليس شفيعاً لأي دولة عربية الاقتداء بها، وممارسة أدوار مشابهة.
لا يمكن تصور كيف تلاحق الرقابة الكتاب، بينما تهطل الأخطار من الفضاء، ومنه تهب رياح التجارة بالبشر والجنس والأسلحة والدمار.. فقط لأنها تدر المال. رقابة الكتب لم يعد لها مكان في عالمنا، سواء كانت الأسباب سياسية أو أخلاقية، فالكاتب ليس على عداء مع الأخلاق، إنه على عداوة مع الزيف الاجتماعي، ولا ينصب من نفسه داعية للأخلاق الحميدة، الكاتب أخلاقي بحكم موقفة الإنساني، لا يستطيع إلا أن يكون أخلاقياً. الكاتب ضمير الأمة، والرقابة على تضاد مع الضمير.
لماذا الضمير؟ لأنه الرقابة والرقيب، ووسائله أجدى: العقل؛ لا القمع.
تداعت هذه المقالة، من المنع الذي أصاب رواية “لا تقصص رؤياك” لصديقنا الروائي عبد الوهاب الحمادي في الكويت، ما ذهب بنا إلى الرقابة، والتساؤل حولها، والدعوة إلى إعادة التفكير فيها، ما دام أنها في تجدد دائم. هذه المقالة مدينة له، لكنها ليست دفاعاً عنه ولا عن الرواية، فروايته تدافع عن نفسها. ولن يعجز كلاهما، فالرؤى تخترق الحجب والقوانين والحدود والرقابات.
-
المصدر :
- العربي الجديد