ثلاثة وأربعون عاما مضت على رحيل السيدة “أم كلثوم”. لا يزال الكثير من الأكاديميين المختصين العرب والعالميين يحاولون فهم هذه الظاهرة الفنية الاستثنائية في عالم الطرب العربي، وتحليل صوتها فنيا وعلميا، وتفسير إبداعها، ولملمة خيوط حياتها المعلنة والسرية، وفك شيفرة وهج سحرها الذي لم يخمد يوما رغم مرور كل هذه السنوات، وما زالت السيدة، ومن دون منازع، “كوكب الشرق”.
آخر محاولات اقتحام عالم “أم كلثوم” وإعادة استكشافه، جاءت عبر رواية “مرسال الغرام” للروائي السوري “فواز حداد” الصادرة مؤخرا عن دار “الريس” بطبعتها الثانية 2018. هي رواية غنية ومشوقة تتشابك فيها الأحداث وتتداخل الأزمان بين الماضي والحاضر، تلج عالم العواطف والحب والفساد العام والخاص والدراما وحياة النجمات الشابات خارقات الجمال المفبركات في كواليس مافيات السلطة والسياسة.
كما تقدم الرواية، ولأول مرة في عالم الأدب العربي، بحثا معمقا لعلم الصوت ودلالاته، صيغ بلغة أدبية وعلمية دقيقة يطال فيما يطاله تحليلا ملفتا وجديدا لصوت أم كلثوم التي تهيمن على الفضاء العام للرواية، وفي ظل طغيان حضورها، وعلى جانبيه، تتناسل الأحداث وحبكاتها المشدودة.
يفتتح الروائي عمله الأدبي بسؤال محير عما إذا كانت هناك علاقة حب حميمة بين الشاعر المتيم أحمد رامي وأم كلثوم؟ أم كان مجرد وهم أحادي من جانب الشاعر دفعه إلى شحذ قريحته الخلاقة وتسخيرها خدمة “للست”، ولا يعدو في النهاية كونه حبا طاهرا وبريئا لا يتجاوز حدود الرومانسية؟ ليختتم الرواية بسؤال وجودي عام عما إذا كان هناك حب حقيقي في هذه الحياة؟
من عمق السؤالين تحضر الإجابات على ألسن الشخصيات التي تكتب مصائرها وأقدراها في خليط بين الحقيقة الموثقة وبين شطحات الأدب، ومن بينها شخصية السيدة “أم كلثوم” التي لا يستحضرها الروائي رمزيا، بل يأتي بها فيزيائيا، لتتربع “ثومة” على عرش الرواية بشحمها ولحمها، مع غموض شخصيتها وعظمتها ورقتها وحسن سمارها.
يغير كما يشاء حياتها بما يتناسب مع تحركات بطل روايته، فينقل سكنها من مصر إلى الشام ليجعلها قريبة من خياله ضمن بيت دمشقي قديم، لها فيه غرفة دائمة ويطلق على المكان اسم “رابطة عشاق أم كلثوم”. يشاركها السكن بشكل دائم أو مؤقت، جميع الشخصيات السياسية التي واكبتها في حياتها وكان بينها وبينهم أثر تاريخي متبادل، ابتداء من الملك فاروق ثم الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، إضافة إلى جميع الشخصيات الأدبية والفنية والاعلامية المؤثرة الشهيرة في تاريخ مصر السياسي في القرن العشرين.
يلعب الخيال في “مرسال الغرام” لعبته الكبرى، وينجح الروائي في الإمساك بخيوط هذا الخيال الثري الذي ينسجه بحرفية ملفتة مستندا إلى بعض الأحداث الحقيقية التاريخية التي مرت، مما يوقع القارئ في حيرة والتباس ما إذا كان هذا السرد الأدبي حقيقة أم لا يعدو كونه سردا أدبيا مفعما بشطحات روائي متيم بأم كلثوم بدوره. حتى أن تماهيه مع بطل الرواية سيدفعه للحصول على بطاقة لحضور الحفل الغنائي الذي أحيته أم كلثوم في مدرسة “اللاييك” في دمشق عام 1955، وهو حفل تاريخي شهير يعيد الروائي توصيفه على هواه، وكأنه وبطله قد حضرا الحفل حقا وليس في الخيال.
منذ سنوات، تعيد واحدة من الفضائيات العربية كل مساء بث واحدة من حفلات السيدة أم كلثوم، لكنك بعد أن تقرأ “مرسال الغرام” ستختلف متابعتك ورؤيتك لهذه الحفلات، وكأنك أصبت بلوثة الرواية التي يمكن تصنيفها كرواية أدبية ـ سمعية. فتبدأ بسماع صوت السيدة بإنصات أعمق، وتراقب وقفتها على خشبة المسرح وأداءها وإحساسها وتحيلهم إلى تلك التحليلات التي جاء بها الروائي، وكيف أنجزت كل أغنية ولمن تتوجه وكل ملابساتها العاطفية والفنية.
تحلل الكلمات البسيطة والعميقة التي كتبها أحمد رامي، فتكاد تلمس كل تنهيدة من تنهيدات عشقه والمعاناة التي مر بها ليخرج لمحبوبته بكل هذا الإبداع. تتأمل فرقتها الموسيقية بأعضائها العظماء وتفهم لماذا يبدو الحزن على وجه الكبير محمد القصبجي في أغنية محددة. تراقب جمهورها الجميل والأنيق وتحسده لأن الحظ حالفه يوما ليحضر واحدة من حفلاتها أو كل الحفلات.
باختصار أنت تكاد تصدق ما جاء في الرواية، أو ربما ترغب بتصديقه، وهو مكمن سحر الأدب العظيم، فكيف حين يتحدث ـ ولو بالخيال ـ عن أسطورة فنية بقامة أم كلثوم وإلهامها، والتي ربما لم تحب أحدا إلا فنها ومجدها، وهو ما يجيب عن سؤال ماهية الحب الحقيقي في الحياة.
-
المصدر :
- الحرة