يتجدد مفهوم الشر من خلال انبعاثه بصورة مروعة في العصر الحديث في ثلاثة أمثلة؛ حرب البوسنة، ونظام الأسد، والحرب في غزّة. مع العلم أن الأفعال المصنفة بأنها شريرة لم تنقطع على مدار التاريخ البشري، وإن ذهب الظن بأنها لن تتكرر بعد فظاعة الهولوكوست، ومحاكمات نورنبيرغ.
تقدم كل من حرب البوسنة وحرب غزّة أمثلة متطرفة في ما بات يدعى “القنص البشري”، أي قنص المدنيين، ففي البوسنة تخفت تحت تعبير لطيف وكان السياحة، توافر فيها السائح الثري المهووس بالصيد، والمرشد السياحي الدليل، ثم الفريسة من المدنيين المسلمين، سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً، التسعيرة تختلف، الأغلى سعراً هو الطفل، فأن يُستهدف طفل يعني حرمانه من حياة لم يعشها بعد، بذلك تبلغ التسعيرة الذروة، وكانت أوضح ما تكون في قنص طفلة لم تتجاوز عامها الأول. أما لماذا الأغلى ثمناً، فلأن الطفل أصغر حجماً، أي كلما دق الهدف، يبرهن السائح عن مهارته.
بينما في غزّة، فالقنص شائع، الحرب تسمح، ولا عقاب أو مساءلة، عدا أنه من دون مقابل مالي. يمارس على كل ما يتحرك؛ أطفال يلعبون، مدنيون بانتظار المساعدات الغذائية، نساء يجلبن الماء، أشخاص غير مسلحين يتحركون ببطء وبوضوح، لا يثيرون الريبة، هنا القتل ليس جراء اشتباك، بل قرار بارد يتخذه القاتل وهو يعلم أنه يستهدف بشراً لا يشكّلون أي تهديد. يقوم بالقتل جنود إسرائيليون، والدافع: هواية، تمرين، تجربة. جميعها بقصد التسلية، تساندها عنصرية فجة، كلما ازدادت وحشيتها، ارتفع عيار المتعة.
بالنسبة لسورية، فما يحضرنا منها ليس القنص وحده، وهو سلاح استعمل بكثرة خلال المظاهرات المدنية السلمية، وإنما الشر الذي تجلى بالقتل والتعذيب في نظام الأسد، كسياسة ممنهجة، لم تكن طارئة ولا عابرة، أصبحت راسخة، بعدما أصابتها تطورات كثيرة من ناحية اتساع رقعتها.
استمرت نحو نصف قرن، تمركزت حسب الظروف في بؤر، حماة، سجن تدمر، ثم تعددت ساحاتها على مدار أربعة عشر عاماً؛ مراكز التوقيف بالمخابرات، سجن صيدنايا، المستشفيات العسكرية، عدا عشرات المواقع التابعة للجيش والدفاع الوطني. يدفن الضحايا المدنيون سراً في مقابر جماعية.
في فترة الحرب، مورست عمليات التعذيب والقتل في جميع أرجاء البلاد، ونشرت مصورة في وسائل التواصل بهدف الإرهاب. كانت حفلات دموية يستمتع بها المجرمون بإهانة مواطنيهم، يفرطون بكرامتهم، ويشتطون في تعذيبهم وقتلهم بأساليب رهيبة، ما يتجاوز السادية، وهمجية تبلغ حد الجنون. في عرف القتلة، الضحايا ليسوا بشراً، لقد طالبوا بالحرية، من دون مبالغة، بعض السجانين يعتبرون عائلة الأسد مجموعة من الأرباب الصغار، على رأسهم الرب الأكبر الذي رحل إلى السماء.
يجمع بين القنص في البوسنة وغزّة وسورية شرٌ بلا حدود
يتساوى الثلاثة، ولو كان موقع الأول في أوروبا، والثاني في غزّة، والثالث في سورية؛ يجمع بينهم شر بلا حدود، حتى أن الشر يتجاوز نفسه، لا يعود جريمة، أو ما تسمح به الحرب، بل تحطيم كامل للمعاني الإنسانية وإنكار لها، وتحويل البشر إلى شيء ما يُستخدم، تلبية لتلذذ غامض، لا تفسير له، في قتل طفل، رمز الضعف والهشاشة، إلى هدف صالح للتسديد عليه، أو قتل مدنيين يعانون من الجوع، تتلخص كلها بقتل الحق في العيش.
ما البطولة، وما التسلية التي يجنيها القنّاص عندما يسدد على الوجه، يرى الجبين، العين، العرق، الشحوب، الخوف…؟ لا يمكن إطلاق النار إلا بتجريد الضحية من أية قيمة إنسانية. أما اللذة، ففي محو هذا الوجود البشري.
عندما تسأل جلادي صيدنايا، أليس الضحايا بشراً؟ فلن يزيد جوابهم دفاعاً عن جرائمهم: نحن ننفذ فقط، كان مجرد عمل.
-
المصدر :
- العربي الجديد