في الأيام الأولى لانتشار الاحتجاجات في دمشق، ترددت بعد صلاة العشاء بين جنبات جامع زيد بن ثابت، الواقع في حي باب سريجة – منطقة الفحامة، أصوات الشبان تهدر كالرعد تهتف ضد النظام، تساند أهالي درعا. كان دويها يهز الوجدان ويثير الرعب بين الأهالي وأصحاب المحلات المتجمعين على الأرصفة لا يتجرؤون خائفين من التدخل للحيلولة بين الشبان داخل الجامع ومجموعات من رجال الأمن والشرطة على رأسهم الشبيحة، يحملون العصي، والسلاسل، والقضبان، والهراوات.
كانوا قد أحاطوا بالمسجد يتشاورن بغضب فيما بينهم، يريدون اقتحام المسجد، لا انتظار خروج الشبان المعتصمين الذين كانت أصواتهم تخترق الجدران، وتلعلع في ليل الشارع. المتوقع أنه ستجري مقتلة لدى تخطيهم عتبة الجامع. حاول الأهالي التوسط من أجل سلامة أبنائهم، لكن دونما جدوى، فتدخل المشايخ وسرعان ما بدأت المفاوضات مع الضباط المتواجدين، إلى أن جرى الاتفاق على خروجهم متفرقين آمنين. خرجوا لكن اعتقل أكثرهم وزجوا في السيارات والشاحنات، وذهبوا بهم إلى الفروع الأمنية.
يمكن لنا التحدث طويلا عن هذا المشهد العابر، وهو واحد من مئات المشاهد اليومية في الأشهر الأولى للثورة. إحدى الملاحظات الجديرة بالتوقف عندها، أن اللافت في أفراد المجموعات التي كانت تترقب خروجهم، أن بعضهم كانوا من عمال مؤسسات الدولة تطوعوا لقمع المظاهرات، وقد بدا على وجوههم الغل والحماسة للفتك بالمتظاهرين، لم تخف ملامحهم الحانقة، التوثب للانقضاض عليهم، ولا ذلك الوعيد بالانهيال عليهم بالضرب وتكسير عظامهم. طبعًا، لم يفلتوا منهم، نالت هراواتهم من الشبان وهم يصعدون إلى الشاحنات، ورافقهم الضرب إلى حين وصولهم إلى الفروع، لتبدأ سلسلة أخرى من الإهانات والشتائم استقبلتهم لحظة دخولهم. أما في الداخل، فالتأديب حسب الفرع والعناصر، ربما انتهت بعد أيام بإطلاق سراحهم، أو امتدت إلى أيام وأشهر، ثم إلى السجن، وربما لم يخرج بعضهم أحياء.
كيف بلغت القسوة بهم هذا المبلغ، بحيث أصبح القتل مجرد واجب أو تأدية عمل، يجب أن يحسنوه بكفاءة، ولو أدى إلى موت المعتقل، سواء اعترف أو لم يعترف.
كان المحاصرون للجامع يمثلون القانون، قانون النظام مدججاً بوسائل القمع، يُنفذ بمنتهى القناعة على أنه واجب وطني، ضد شبان يهتفون بإسقاط النظام وهو تفسير لهتاف “الشعب السوري ما بينذل”. لا حاجة للتذكير من أن إذلال الشعب السوري استمر على مدى عشر سنوات دون توقف وبتركيز شديد، ولا تستثنى أيضًا أربعة عقود سبقت، مورس خلالها التعذيب بمختلف أنواعه، إلى حد القتل، وفيما بعد سنوات طويلة، بالحصار والتركيع والتهجير والتشريد، مرورًا بالتجويع والغلاء الرهيب. وسوف يبلغ التعسف اعتبار البوط رمزًا للانتصار والإخضاع، أي لإذلال الأهالي.
هذا، ولم ندخل بعد إلى الفروع الأمنية حيث يجري التنكيل بالمعتقلين والتعذيب إلى حد الاغتصاب، يمارس بتشف واحتقار لأية قيم إنسانية… فالشر في الأقبية يعمل بكل قواه وبجلاء تحت ظلال قانون الأجهزة الأمنية، حسب قاعدة لا بريء ولا براءة، مجرم كل من يطالب بالحرية، ومن فرط إيمانهم بما يفعلونه يعتبرون قتل المعتقل أمراً عارضاً أو عرضياً، والأفضل عدم الإفراج عنه إلا ميتًا، وربما عدم تسليم جثته لأهله، ودفنه في مكان مجهول، أو حرقه، والتعامل معه بحقد كأنه ليس من البشر، هذا التعامل امتد إلى المستشفيات، مارسه أطباء وطبيبات ممرضون وممرضات… الشر أيضًا كان حينئذ قانون الطب.
المفاجئ، أن الذين يتولون مهام التعذيب أناسٌ مثلنا، ليسوا مجرمين، وليس هناك ما يبرر كراهيتهم، فلا خصومة ولا عداوة مع المحتجين، أصلًا لا يعرفونهم، كما لا ضغينة أو بغضاء، ولا مشاعر حقد شخصية، لم تقع أبصارهم عليهم من قبل… لكنهم لا يتورعون عن ضربهم بكل حمية، وكأنما من أجل قضية سامية.
كي ندرك هذه المفارقة الإجرامية، يتماثل سؤال، كيف بلغت القسوة بهم هذا المبلغ، بحيث أصبح القتل مجرد واجب أو تأدية عمل، يجب أن يحسنوه بكفاءة، ولو أدى إلى موت المعتقل، سواء اعترف أو لم يعترف. ولنكن واضحين، ليسوا مرضى بانفصام في الشخصية، بالعكس يحدث انسجام بين ما يمارسونه في عملهم، وما يعيشونه في بيوتهم بين عائلاتهم. الأدهى ادعاؤهم أنهم موظفون يتلقون الأوامر وما عليهم إلا تنفيذها، وقد يضحون بأنفسهم من أجلها، إنها وظيفة.
تبلغ المخاوف مداها الأقصى في إدراك أن هذا الإنسان، لا يعرف أنه إنسان، ولا كيف يكون إنسانًا… لا يرى في هؤلاء البشر أنهم مثله، ولا يتحسس آلامهم والحيف الذي أصابهم، أو لماذا يحتجون، لا يرى فيهم سوى أنهم خونة، فلا يسائل المجرم الذي منحه الحق في تعذيبهم؛ إنه عمى الضمير.
هذا واقع يختلقه نظام يريد البقاء ضد الحياة، فيحول الموالين له إلى آلات حاقدة، تقتل لمجرد القتل، تسيرهم أوامر وتعليمات لا تناقش، ولا تقع تحت طائلة الأخلاق، إذ ما علاقة الأخلاق بها، مادام أنها سياسة عليا؟
يشكل القانون مأساة السوريين… مع العلم أن القوانين السورية لا تقل إحكامًا ولا عدالة، عن القوانين التي تنعم بها شعوب البلدان الأخرى بالعدالة والحرية…. لكن قوانيننا لا تعمل، وجرى الاعتياد على النظر إليها على أنها مجرد كلمات مكتوبة، لا تؤخذ بالحسبان، عبارة عن لاشيء، فلم يلحظ لها تطبيق عملي، إذ القانون قانون النظام، وهو “اللاقانون”.
القانون الحقيقي يجهله السوريون، لم يروه يعمل على الأرض.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا