يُبدي كثيرون عجبهم، والأغلب استهجانهم، من أن يبلغ ثمن لوحة فنية في المزادات مئات الملايين من الدولارات، بينما الفنان الذي ودّع الحياة قبل قرون أو بضعة عقود، عاش فقيراً جائعاً، أو منبوذاً ومهملاً، مصاباً بالكآبة والجنون، أو فارق الحياة بعد حياة بالكفاف. أما الفنانون المحظوظون، فنّانو بلاطات الملوك والأمراء، فعرف عنهم الإدمان على الشراب والنساء، لا الثراء.

يستدعي هذا المآل بالفن والفنان إلى غضب عشّاق الفن، بتعاضد ظلم الأقدار، وإهمال الحكومات ورعاة الفنون، ولامبالاة المزادات، وانتزاع اللوحات من عالم الفن وانطوائها في عالم المال، فاعتبر بعضهم أن ما يجري في المزادات العلنية مجازر، تؤدي إلى إبعاد الأعمال الفنية عن عشّاقها الأوفياء.

ما يجب إدراكه، أن صالات المزادات لا علاقة لها بالفن، مجرّد قاعات فخمة لعرض الأعمال الفنية لآخر مرة، بعدها ستُحتجز في منازل الأثرياء ومقابر الخزائن السرية، وإذا عُلقت على جدار، فللأبهة كنوع من مظاهر الفخامة، ومحاطة بأجهزة الإنذار.

” تؤدي المزادات إلى إبعاد الأعمال الفنية عن عشّاقها الأوفياء”

تغصّ قاعة المزادات بالحضور، من الزبائن الأثرياء أو وكلائهم، والمضاربين والمشترين وجامعي التحف والتجار والمغامرين، وصغار المشترين الباحثين عن صفقة رابحة، وإذا حضر الخبراء فليسوا إلا سماسرة للأثرياء، لإسداء النصح بشراء أعمال لرسامين معروفين، أو لديهم مستقبل مرموق في عالم الفن.

روّاد الصالات ليسوا الفنانين ولا نقّاد الفن، أو مؤرّخيه والمهتمين به. إنها تجارة، الضالعون فيها رجال الأعمال المترفون ذوو الملابس الأنيقة، بإشارات من أصابعهم، أو بهزة أو التفاتة من رؤوسهم يحوّلون الملايين من حساباتهم إلى لوحات فنية مضمونة القيمة قابلة للارتفاع، ولا يستبعد أن تكون هذه المبالغ الهائلة تبييضاً لأموال قذرة حصيلة نشاطات ممنوعة وغير أخلاقية في عالم الجريمة.

في المعمعة الراقية لعلميات البيع والشراء، لا تقلّ الأرقام المتداولة عن الملايين، هذا هو مفهوم الفن العظيم، يعامل بالأرقام الفخمة، فالفن سلعة لا تخضع أسعارها لقواعد النقد الفني ومعاييره، ولا تناقش جمالياتها، ولا قيمتها المرتبطة بمكانة الفنان وتفرّد أسلوبه؛ حتى أن الكلام عن “الفنانين العظام” و”روائع الفن”، بالمقارنة مع ما يجري في المزادات، بات يُعتبر صيغة ساذجة، تنتمي إلى الدراسات الأكاديمية عن تاريخ الفن.

القليلون جداً من الفنانين، ظفروا بالشهرة مع الأسعار الفلكية وهم على قيد الحياة. أما الكثرة الساحقة منهم، على الرغم من أعمالهم المتميزة، ما زالوا يقفون في الانتظار، لكن إذا أرادوا ألا يعانوا من الملل والغضب، فالأجدى ألا يعولوا على ضربات الحظ، وإنما على الفن. فالمال ليس هدف الفنان، ولا يمنح الفن قيمته، وإن شكّل قيمة مضافة إليه، لقاء عمل قد لا يثاب عليه بما يستحق، فلا يجب أن يربط إبداعه به. يحتاج الفن إلى محرّض، أسمى من المال، فالقوة التي كانت وراء وجوده على مر العصور، كانت عامل بقائه، وربما خلوده كمأثرة من صناعة الإنسان، تحفل بالعظمة والغموض ومقاومة الفناء.