عندما حصل الفيلسوف هنري برغسون على جائزة نوبل للأدب عام 1927، كان قد احتل مشهداً تقليدياً في المشهد الثقافي الفرنسي، كمفكِّر وقف حياته على التعليم، يقبع في برجه العاجي. لم يكن موضع خلاف كبير، فالفيلسوف كان يحاضر في “الكوليج دو فرانس” الذي تخرج منه عتاة فلاسفة فرنسا، عموماً ساد الإجماع عليه، باستثناء انتقادات الشيوعيين الصدامية، باعتباره منتمياً إلى الماضي، لا رجل المستقبل، ونصحوه بالعودة إلى صومعته، معتصماً بجهله بالفلسفة الماركسية والديالكتيك والمادية التاريخية.
رغم الانتقادات التي طاولته، حظي في حياته بشهرة لا نظير لها، لم تتوافر لأي فيلسوف، ما أتاح له انتشاراً واسعاً في فرنسا وفي دوائر متعددة، كانت فلسفية بالدرجة الأولى، قبل أن تكتسحها الفلسفة الوجودية بعد الحرب العالمية الثانية.
أما المستغرب، فأن تمنح جائزة نوبل لفيلسوف وليس لأديب، وكانت لأول وآخر مرة، عزيت في وقتها لما حفلت به مؤلفاته من روعة في اللغة الفرنسية، ما جعله يعد من كبار الكتّاب بما اتسم به أسلوبه من جمال وموسيقى وتوافر الصور الشعرية والتشبيهات المثيرة، وذلك جعل قراءة كتبه متعة تعادل الأعمال الأدبية الكبرى، مع تميّزها بالدقة في التعبير الفلسفي، والتعبير عن مسائل جديدة كل الجدّة، لم تألفها اللغة الموروثة التي أعطاها معاني جديدة غير مألوفة في اللغة الفلسفية والعلمية.
” بتخلّي الثقافة عن دورها السياسي تتركه لمحترفي التلاعب”
هذه الصورة المزيج من الفلسفة والأدب، لا تزيح جانبا صورة هنري برغسون السياسي، ما قد يفسر أيضاً منحه جائزة نوبل، ففي عام 1917 وكانت الحرب العالمية الأولى على أشدها اسند الرئيس الفرنسي آرستيد بريان إليه مهمة الاتصال شخصياً بالرئيس الأميركي وودرو ويلسون، كي يقنعه بدخول الحرب ضد ألمانيا إلى جانب الحلفاء. أما لماذا برغسون بالذات؟ فلأنه فيلسوف بمقدوره، حسب قناعة الرئيس الفرنسي أن يكسب ثقة الرئيس الأميركي، وإقناعه بالتزام الحلفاء بتصوره عن “سلام بلا منتصرين”.
أخذ برغسون بالحسبان تكوين الرئيس ولسون الفكري في الفلسفة واللاهوت، والذي لم يكن يرغب في الانخراط في نزاع لأسباب سياسية أو مصلحية فقط، كان بحاجة إلى هدف روحي أيضاً، ربما لتبرير مشاركته في الحرب. ركب برغسون السفينة قاصداً الولايات المتحدة، في وقت كانت الحرب بين الغواصات على أشدها. في واشنطن، التقى ولسون ومساعديه.
سبق لبرغسون أن عرض حجته الرئيسية، منذ بداية الحرب، في خطاب قابل فيه بين “القوة التي تُستهلك”، وهي القدرة المادية والميكانيكية، أي ألمانيا. أما “القوة التي لا تستهلك”، فهي قوة الفكر، التي تمثلها فرنسا. وبهذا الشكل بَيّن برغسون أن الحلفاء يحاربون من أجل الديمقراطية، ودولة الحق والسلام. لاقت مقولاته صدى كبيراً لدى ولسون، الصانع المستقبلي لعصبة الأمم. وهكذا دفع برغسون بفلسفته في الحرب، ونجح فيلسوف “التطوّر الخلاق” و”الطاقة الروحية” في الإسهام بدور في خوضها وإنهائها.
نشط برغسون في إحلال السلام في العالم، على الرغم من محاولات زملائه الفلاسفة اتهامه بأنه ورط الفلسفة البريئة بأحابيل السياسيين المهرة في حياكة المؤامرات والأكاذيب، وأنه ولج وكراً قذراً لن ينجو منه، وإذا كان يطمح للعب دور سياسي، فلن يكون سوى الهاوي بين محترفين.
وبرهن برغسون أن السياسة ليست اختصاص السياسيين، وإنما السياسة ما هي إلا أدوات جيدة أو رديئة، وصالحة للأدوار جميعها الحسنة والقذرة. ليس الأدب ولا الفلسفة أو السياسة، يتحرّك كل منها في فضائه مكتفياً بذاته في عزلة عن الحياة، للسياسة جانبها الإنساني الأبرز في نشاطها، والثقافة بتخلّيها عن دورها السياسي، تدعه لمحترفي التلاعب بالحياة وتجيير مصالح البشر لأطماعهم، ونهباً لشرورهم.
ليس المثقفون العرب الذين عملوا في مجال الفلسفة بأقل شأناً، قدموا الكثير من الأسماء كان منهم زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وصادق جلال العظم، ولم تنفصل الفلسفة التي عملوا عليها عن السياسة. هؤلاء عقل الأمة وضميرها. تشكل الثقافة فارقاً أخلاقياً في السياسة، العالم بحاجة إليه، خاصة عندما يتحكّم فيه مجانين المال والغطرسة والغباء.
-
المصدر :
- العربي الجديد