يستعيد راشد عيسى في كتابه “سوريو الباصات الخضر”، سورية كما هي تماماً، منكوبة وممزّقة، والباصات الخضر كرمز لإكراه الأهالي على مغادرة منازلهم، بعدما عانوا من الحصار والتجويع، ولم يركعوا، نجوا من الإبادة بالبراميل المتفجرة وصواريخ السكود والسلاح الكيماوي، لكنهم لم ينجوا من الترحيل. تاريخ من الألم ما زال مستمراً، لم يمضِ بعد، آثاره محفورة في النفوس، وتحت الأرض وفوقها.

في الكتاب سجال الخارج مع الداخل. بيد أن الداخل ليس السوريين الرازحين تحت سلطة النظام، بل الموالون من حملة السلاح، مليشيات الدفاع الشعبي والشبيحة، ورجالات النظام. يلتحق بهم، أدباء وصحافيون، وفنانون سينمائيون وتلفزيونيون، ومخرجون وممثلون. مؤيدون ليس بحكم موقعهم الوظيفي فقط، بل في دفاعهم عن نظام دموي ومجرم، لا تُخفي علاقتهم به، اللهاث وراء المناصب والعمولات، وشراكات السرّاء التي يظهر مفعولها في الضرّاء أكبر، ما أنتج أثرياء الحرب.

كم هو بشع انقسام سورية إلى داخل وخارج. هذا هو الداخل؛ دويلات، إقطاعيات، قواعد عسكرية، مليشيات، لطميات، مراقد مقدسة، قبور جماعية، سجون، أجهزة أمنية، حواجز… سورية بلد محتل. بينما الخارج، ملايين النازحين واللاجئين، مأواهم أينما حطّت بهم الرحال.

تاريخ من الألم ما زال مستمراً تحت الأرض وفوقها

يُعرف راشد عيسى كناقد حاذق في فن الدراما من سينما وتلفزيون، وأيضاً الفن التشكيلي، صحيح أنه يتمتع بثقافة متينة، بيد أنه صحافي فحسب، لكنه صحافي شجاع وجسور، إنه سلطة في محلّها، وهو أمر لا يستطيعه كل من يكتب في صحيفة. إنه أحد الأدلاء إلى الحقيقة، والحقيقة وحدها ذهبت به إلى الثورة، لا يمكن أن يكون في مكان آخر. بوسعنا معرفة ماذا سيكون موقفه من التطبيع، دونما أن يعلنه، إنه في الموقع المتقدم ذاته لا غيره، مع البشر أمثاله، على خط النار، في معركة الرأي.

منذ بداية الاحتجاجات، يكتب مقالات صدامية ولاذعة لا توفر النظام ومؤيديه والموالين له، والملتحقين به. يكتب كما اعتاد دائماً بحرية وحرارة، يستلّ كلماته من واقع زماننا العاصف، والأيام الأكثر عذاباً، مقالات حافظت على صدقيتها، ما زالت راهنة، تسهم في بناء السردية السورية المضادة للنظام.

قد ننظر إلى كتابه على أنه مجموعة مقالات سبق نشرها، وفات أوانها، ما سرّ حضورها؟ لن نحتار في التفسير، إذ ما الذي تغيّر؟ محطات عن الثورة والحرب، ومشهديات خاطفة وكاشفة، ولمسات موجعة من عذابات الناس، كذلك عن سقوط الثقافة وتساقط المثقفين. قد يكون كتاباً مفرطاً في القسوة، ربما بسبب إفراطه في الحفر حتى شغاف القلب، ينخر في الروح، تلك هي طبيعة الألم الحقيقي، عميق وشاق.


فلنقل إن الكتاب، ليس كما يبدو لنا، أي ليس بهذه القسوة، يمتلئ بقصص رائعة، أو أنه رواية، لا تقتصر على سورية فقط، إحداثياتها شوارع دمشق وأحياؤها، الميدان والمزة والصالحية، مخيّم اليرموك، بلدات الغوطة، حمص بابا عمرو، حماة وحلب… وتمتد إلى بيروت ومخيمات النزوح وبلدان اللجوء… حتى ميناء كاليه، بل وأبعد. رواية أبطالها: نايف الذي رأى كل شيء، المصوّر قيصر، الصحافية الفرنسية غرانس لوكين، الشاعر ناظم حمادي، طفلة دوما ذات المعطف الأحمر، نوال المغربية ملاك السوريين، لمى الدبلوماسية المنشقة، إيلان الطفل الكردي ميتاً على الشاطئ.

رواية لا تخلو من المجرمين والقتلة والمثقفين الخونة، والمهربين واللصوص المعفشين والشبيحة… يلعبون أدوارهم القذرة. تبلغ المهزلة بهم الدفاع عن الظلم ملوحين بالمؤامرة الكونية، ومن فرط طرافتها تبدو من تأليف مثقفي الدراما الأشاوس، ابتكرت في لحظة إلهام منحطة، فحوّلوا ثورة الناس إلى إرهاب وإرهابيين.

ولدت مقالات “سوريو الباصات الخضر” من تفاعلات الحدث السوري وتقلّباته. اليوم، بعد نحو عشر سنوات، يعاني السوريون من الغلاء الفاحش، وفقدان الوقود، وندرة الكهرباء، والبرد والكورونا، وعدم كفاية الخبز، أي الجوع… هذه حرب أخرى تشنّ على السوريين.

راشد عيسى الوفيّ لفلسطين وفيٌّ لسورية، لا ينتصر للسوريين ولا منّة له عليهم، إنه واحد منهم، في الخندق نفسه، إنه سوري مثلما هو فلسطيني، أو حسب تعبيره فلسطيني سوري، يكتب عنّا جميعاً. تحية لك.