بينما كان الخلاف عمّن هو الفيلسوف الألماني صاحب فكرة العدميّة، هل هو هايدغر، أم أستاذه نيتشه، فإذا بها مستعارةٌ من الفرنسي بول بورجيه، وهو روائيٌّ غير معروف في أوساط الفلاسفة، وإن كان كثيراً ما تفلسف في رواياته، وكان معروفاً أيضاً كناقد أدبي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، اشتهر بروايته “جريمة حب” ثم تتالت رواياته، وأكثر ما يعتني به وصف الحالات النفسية. تُرجم بعضها بشكل مبكر للعربية، مثل “التلميذ” التي صدرت تحت عنوان “المريد” لسليم سعدة، في أوائل القرن الماضي، كذلك رواية “الطلاق” ترجمها ولي الدين يكن، نحو عام 1920. كما تُرجمت روايات عدّة غيرها إلى العربية.
يصف بورجيه العدمية بأنّها المرض العصري لأوروبا. تبدو في معاناة الإرهاق النفسي، والهشاشة الروحية، وتوهُّم الإنهاك الجسدي، والتوق إلى تدمير الذات، والرغبة في الموت، وكأنّما العدمية ليست مستمدّة من العدم، بل من الإعدام، تقود إلى إعدام المرء لذاته، وإعدام الحياة نفسها. العدمي شخص لم يعد يؤمن بشيء، ويبلغ اعتقاده حد الإيمان بأنّ العدم هو الوجود الحق، واللاشيء أفضل من الوجود. تؤدّي هذه السلسلة إلى الحلّ الأمثل؛ أن يضع حدّاً لحياته عن طريق الانتحار.
طبّق نيتشه المفهوم بمعنى آخر، أراد إعدام كلّ القيم السائدة في عصره، الموروثة من الدين والتقاليد، من أجل إحلال قيم جديدة محلّها. بهذا المعنى، تبدو عدميته إيجابية لا سلبية، فالدين حسب نيتشه، مضادّ لقيم الحياة والعالم الأرضي الذي نعيش فيه، لتمحورها حول التقشُّف والرهبنة والزهد، والخضوع لتقاليد المجتمع، بينما علينا أن نحبّ الحياة الدنيا ونعيشها كما هي دونما احتقار أو ازدراء. ودعا إلى تمجيد الحياة في كتابه الشهير “هكذا تكلم زرادشت”.
تذهب الفلسفة بنا إلى الحياة بينما يأخذنا العِلم إلى الفناء
وأسهم ماركس على نحو آخر، نظراً إلى تقدُّم العلم، وتنبَّأ بمصير البشرية في عصر تُسيطر عليه الآلة سيطرة كاملة. فلم يعد الإنسان هو الذي يسيطر على الآلة، وإنّما الآلة هي التي تسيطر على الإنسان. بذلك، ربط ماركس العلم بالاغتراب والتشيُّؤ، ففي المجتمع الصناعي الرأسمالي يتحوَّل الإنسان الى آلة، وربما إلى لا شيء، يشابه العدم، وتصبح العلاقات بين البشر غير صحية في مجتمع لا يفكّر إلّا بالربح، والخسارة، وتراكم رأس المال، فتفقد القيم معناها الإنساني، ولا يعود هدف العلم تحقيق التقدم لصالح الإنسان، وإنّما تحقيق التقدُّم لصالح التقدم. وسيعتبر هايدغر أنَّ التكنولوجيا اكتسحت الأرض وأنّ الله وحده هو القادر على إنقاذنا.
تنبُّؤات ماركس ونيتشه وهايدغر، تحقّقت إلى حدّ كبير؛ فهناك أشياء كثيرة يخترعها العلم الحديث ولا حاجة للإنسان إليها، قد تكون ضارّة به، فالتكنولوجيا التي كانت في البداية مشروعاً تحريرياً للإنسان وتخفيف عنائه، تحوّلت إلى عبء عليه في عصرنا.
ترديدًا لهذه الفكرة، قال الفلاسفة بما معناه أنّ عود الثقاب الذي نشعل به النار لطهو الطعام هو نفسه الذي قد يستخدمه المجرمون لحرق البيت! فالتكنولوجيا قد تُستخدم في طريق الخير أو في طريق الشرّ، ما أدّى إلى أن يُصبح الإنسان أكثر حذراً تجاه العلم، فليست كلّ الاختراعات ضرورية ومفيدة، ومن أجل الإنسان، بل قد تكون لإفنائه كالقنبلة الذرية والأسلحة الكيميائية والبيولوجية وغيرها.
وهكذا، لم تكن عبثاً قولة هايدغر الشهيرة: “العلم لا يفكّر!”، الفلسفة هي التي تستطيع أن تفكّر. فهي أهم من العلم وأعلى شأناً. وحدها القادرة على الخوض في قضايا الوجود، وتذهب بالإنسان إلى الحياة، بينما العلم يأخذه إلى الفناء.
ما أورثته الحروب من مخاوف هو أن الدول الكبرى في عالمنا، تتنافس كما في العصر الذي سبق، للسيطرة على العالم، لكن مع قدرة على التدمير غير مسبوقة، ما يسم هذا العصر بالعدمية، ولا غرابة في أنَّ الغرب إذا استمر على هذا المنوال، لا محالة سائرٌ نحو الانحطاط الروحي، لولعه المهووس بالتكنولوجيا من دون تقدير نتائجها، لكن في إفساح المجال للعقل، حسب الفيلسوف هوسرل، سيجد العلم أسسه ومرتكزاته في الفلسفة.
-
المصدر :
- العربي الجديد