يعتبر التاريخ في أحد تعاريفه الأكثر شيوعاً، السجل الشامل للحدث الإنساني. ولا ينقضه القول إنه وعاء الخبرة البشرية، أو حصيلة الجهد البشري في الماضي، أو مسيرة الإنسان في الأرض.
ترى ما الذي نريده من التاريخ؟ دفنه أم استعادته، التعلّم منه، وأخذ الدرس والعبرة، أو التوق لنرى أنفسنا في مرآته؟ يريد الإنسان كل هذا وأكثر. ولن تكون هناك أهمية لأي حدث صَغُر أو كبُر، إن لم يؤثر في مسيرة البشر سلباً أو إيجاباً. وبالنسبة إلينا، لن يكون للتاريخ معنى، إن لم نسهم في صناعته.
لا يُعلّمنا التاريخ شيئاً، إلا إذا أدركنا أن الماضي ليس زمناً ميتاً، فهو شئنا أم أبينا حيٌّ يسري نسغه في الحاضر، ولا من زمن ماض يستعاد ليحل محل المستقبل. ففي دراسته تأمّلٌ للتجربة الإنسانية على مر العصور سواء في صعودها وتألقها أو تدهورها وانحطاطها. والأهم، التبصر بالأسباب والعوامل.
تؤثّر الحروب والثورات في حياة البشر وأفكارهم وأساليب عيشهم ووعيهم لموقعهم في العالم. فأوروبا قبل الحرب العالمية الأولى غير أوروبا بعدها، نشهده في تغيّر خريطة القارة، بانهيار امبراطوريات ونشوء دول. مثلما أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية غيرها بعدها.
” لم يتوقف استثمار التاريخ في القتل، وتجيير الدين لمصالح السياسة”
ففي الفترة الفاصلة بين الحربين ازدهرت أفكار النازية والفاشية والستالينية، ونشوء الدول الشمولية. إثر انتهاء الحرب الثانية، كان الإحساس الطاغي على الناس حاجتهم الماسة إلى سلام دائم، توفره حكومات ديمقراطية، وإن ما زالت غواية الاستعمار والنهب تجري في عروقها، فجرى تقاسم العالم، فلم تنحسر الدكتاتوريات، الحرب الباردة أيضاً أعاقت تقدّم التاريخ.
ليس من المحتم أن تدفع الثورات إلى متغيرات إيجابية، تنحو إلى الأمام، بل قد تتراجع نحو الخلف، فإذا كان الاستقلال في البلدان العربية، قد وعد بدخول المنطقة إلى التاريخ، فالانقلابات العسكرية أخرجتها منه، وكانت نقمة على البلاد، وضعتها في مسلسل من القمع والحجر على الحريات، ما أدى إلى قيام الدولة الأمنيّة، وعطل تجربة ديمقراطية كانت على وشك البزوغ.
يُعدّ تاريخ العرب، التاريخ الأشد حاجة إلى الدرس والتمحيص، لم يُطلق من الكتب، وإنما أصبح رهين سرديات منحازة، وحُصّن بمذهبيات كانت أسيرة الجمود، هيمنت على الحاضر، احتوته وسيّرته لحسابها، فكأن لا دين ولا دنيا، بل ماض كسيح ومستمر، يرزح بثقله على كاهل الأوطان، لا يتزحزح، يزاحم المستقبل ويرسم صورته.
في صورتنا الحاضرة، ليس من المستغرب أن يؤدي العبث بتاريخ شملته المذاهب بالقداسة، أن يُمسي خزّاناً للخلافات والفرقة والتقاتل والثأر. أضافت إليه مطامع الدول وتدخلاتها جيوشاً وميليشيات، وشهداءَ ضحايا عمى القلب والروح.
لا يحتاج تفاقم هذه الصراعات وشمولها بلاد العرب إلى تحاليل، ولن تجد حلاً، طالما هناك من يشعل النار ويؤجّجها. إن لم يتوقف استثمار التاريخ في القتل، وتجيير الدين لمصالح السياسة، فالحاضر سيأخذ طريقه إلى مستقبل من خراب.
-
المصدر :
- العربي الجديد