لا يُنَازع الطاغية على سلطاته، فهو الأوحد، لكنه ليس وحيداً، تحيط به بطانة من المستشارين عديمي الإحساس، مع طغمة فاسدة من المتزلفين والخدم المتنفعين الأشرار. السلطة المطلقة لا تعمل منفردة، تحتاج إلى سلطات مطلقة رديفة، لتنفيذ أوامر الطاغية.
المثال الأبرز ستالين، لا يمكن تصوره طاغية وحيداً، تربع فوق هرم يقوم على سلسلة من الطغاة التافهين الصغار، أمثال غينريخ ياغودا، ونيكولاي يزوف، لافرينتي بيريا، قادة الشرطة السرية الروسية الذين رافقوا سنوات حكمه، اعتمدهم أركان بطشه، وإن كان يحتقرهم. كانوا أهلاً لتنفيذ المهام الإجرامية. أثبتوا وفاءهم، بالإيغال في القمع بحرص بلغ من الأمانة أنهم أضافوا إليه قدراً لا يضارع من الوحشية. تهب السلطة متعة استباحة البشر، والسيطرة عليهم بالتصرّف بأجسادهم وإزهاق أرواحهم. للإجرام خصائصه وخصوصيته، إيقاع الألم يهب النشوة، فآلة القتل ليست صماء بلا مشاعر وأحاسيس، التفنن في التعذيب لا يخلو من التشفّي والتلذذ.
هذه الأساليب كانت مرفوضة من قبل الثوار البلاشفة، حلموا قبل الثورة بإلغاء العقوبة وفكرة القصاص، وخططوا لإقامة مصحات تحيط بها الحدائق الغناء والأشجار وارفة الظلال، وبرك الماء يسبح فيها البط، تعلوها سماء صافية الزرقة، وفضاء ترفرف فيه العصافير، وتصدح الموسيقا… لإصلاح العناصر الجانحة نحو البرجوازية باستدراجها الى نعيم الشيوعية.
” لم يكن لدى الطغاة الصغار سوى خيارين إما الترقية أو الإعدام”
سيتضح للطاغية أن كل هذا هراء! وسيكون العلاج باعتقال المعارضين، أو من يشتبه بأنهم معارضون، وسحقهم جسدياً وعقلياً. ياغودا قتل ربع مليون إنسان، وكان يستمتع بإعدام ضحاياه بيديه، وأرسل آلاف الأبرياء إلى معتقلات الجولاك. يزوف المتعطش للدماء تفوّق على سلفه بقتل الملايين، وقاد حملة التطهير الكبرى. أما الجلاد بيريا، فسيُهجّر شعوباً بأكملها بتهمة التعاطف مع الألمان، ويرسل مئات الآلاف الى المعتقلات بتهمة الخيانة، ويعدم عشرات الآلاف ويدفنون في مقابر جماعية.
تفانى الطغاة الصغار في تنفيذ الأوامر، لكن الطاغية الأكبر دائم الريبة، كان عقب كل تصفية ضخمة يعمد إلى تصفية قائد البوليس السري، لم يكن لدى الطغاة الصغار، حسب قول لستالين سوى خيارين، إما الترقية أو الإعدام، وبما أنهم وصلوا إلى سقف الترقيات فالإعدام. يعرف أن للخنوع الأعمى سلطانا وتسلّطا لا يشبعهما سوى التآمر، مستغلين إخلاصهم ووحشيتهم، بالعمل على تضخيم أدوارهم، كأنهم هم الذين صنعوا الديكتاتور، لولاهم لما كان. بالمقابل، يلقنهم الديكتاتور الدرس القاتل مكافأة على جشعهم: بل لولاي لما كنتم.
يزرع الطاغية ثقافة الطاعة العمياء إلى حد يصبح الخنوع عن طيب خاطر الأنموذج المثالي المنشود. وحدهم الأوغاد والسفلة يتسابقون إلى تقديم الخدمات له، والتماهي معه، فهو الطريق إلى تاريخ لن يمتنع عنهم، مثلما لم يمتنع عن أمثالهم ممن سبقوهم، وكانت ضحاياهم سبب ورودهم على صفحات الظلام، مشفوعة بألقابهم: النذل ياغودا، السفاح يزوف، الجلاد بيريا. ألقاب لا تقصر عن إدخالهم إلى تاريخ الجحيم الأرضي.
-
المصدر :
- العربي الجديد