بصرف النظر عن الخلاف، أو القضية التي تتنازع دولتان من أجلها، ففي مشهد تقدُّم الجنود وإطلاق الصواريخ وهدير الدبابات، دلالة على أنَّ الاعتقاد السائد لدى الطرفين هو أنَّ كلّاً منهما يخوض حرباً عادلة. قد يرى بعض منّا في هذا القتل المتبادَل، وتساقط القتلى والجرحى؛ الشّرَّ المطلق. بينما هناك آراء لا يتردَّد أصحابها في الزعم بأنّ الشّر لا مناص منه، إنه المحرك للحياة.

حقيقةٌ تأتي خطورتها من نزع المسؤولية عن البشر، والاعتقاد بأنَّ الحياة تتطلّب الشّر لتنجو من الركود، فالحروب والثورات مهما كانت نتائجها الكارثية، تُحدث متغيّرات عميقة، غالباً نحو الأفضل. فلولا الثورة الفرنسية وما أهدرته من دماء لما انتزعت الشعوب من الملوك الحقَّ الإلهي في الحكم. ومثلها الثورة البلشفية التي أسقطت الحكم القيصري، وأنهت حكم سلالة رومانوف، وسواء كانت الثورات والاضطرابات والقلاقل محقّةً أو غير محقّة، فالنتيجة في صالح البشر.

ليس في الدفاع عن الشّر محاباة له؛ فهو جزءٌ من تركيبة الإنسان الذي يتنازعه الخير والشّر، وما رحلته في الكون إلّا صراع ضدّ الفساد الرابض في داخله، صراع مستمرّ من دون تحقيق نجاح نهائي في التغلُّب عليه، ليس لأنه يولد معه فقط، بل لتجدُّده مع الزمن أيضاً. لو نظرنا إلى تاريخ كوكبنا، فلن نخطئ القول، إنه تاريخ من الحروب والمجازر والإبادة والطغيان، كبّد البشرية ملايين الضحايا، هل هي ضريبة التقدُّم، لئلا يستنقع العالم في ماض يكرّر نفسه؟ إذا كان كذلك، فالشّر أداة لتغيير العالم، تلك وظيفته في التاريخ، وجوده ليس عن عبث، إنها حقائق الحياة، ولا بد من دفع الثمن.

هل يمكن تبرير الشرّ إذا ارتكبه مظلومون لأسباب عادلة؟

وربما كان من أقوى تجلّياته، عدا الحروب، العمليات الإرهابية الانتحارية من تفجير طائرات ومحلات ومطاعم ومقاهٍ وأماكن عامّة، أدّت إلى قتل الناس بالجملة دونما تمييز. وغالباً كان مقتل الضحايا بالمصادفة البحتة، لمجرّد وجودهم في المكان الخطأ، فهل يمكن لشخص صاحب ضمير أن يقتل كلّ هذا العدد الكبير، ويخلف نساءَ أرامل، وأطفالاً يتامى، ويفجع الآلاف من البشر، لا علاقة لهم بحرب أو قضية، ولم يشاركوا في نزاع؟ كان من نتائج هذه العملية ملاحقة الإرهاب في أرجاء العالم، من دون أن يختفي، بل تصاعدت عملياته وانتشرت، وخلّف وراءه في سبيل القضاء عليه، شرّاً أكبر، بغزو العراق وقتل مئات الآلاف من الأهالي الأبرياء، فالشّرُّ أنتج الشّر.

من جانب آخر، هل يمكن تبريره، إذا كانت هذه الجرائم ارتكبتها جماعات مظلومة ولأسباب عادلة؟ في الواقع، معايير هذه الجماعات، خصوصاً حركات التحرُّر الوطني ليست معايير الآخرين، فالعملية كانت تعريفاً بقضيتهم، كما أن الضحايا دفعوا ثمن لا مبالاتهم تجاه قضايا العدالة، وليدركوا أنَّ حكوماتهم تتعدّى على شعوب أُخرى لتنهب ثروات بلدانهم. هناك أسباب كثيرة، تجعل انتقامهم يبدو مشروعاً، رغم استنكار العالم.

أغلب العمليات السابقة، اعترف بارتكابها فلسطينيون وجماعات متأسلمة (مع الفرق طبعاً بين الحالتين وتعرّض الفلسطينيين لإرهاب صهيوني منذ ما قبل النكبة)، ضجّ بها العالم، وانعكست سلباً على التعاطف مع عدالة القضية الفلسطينية، كما ارتدّت عكساً على الإسلام، فصُوّر على أنه دين إرهابي، لصيق بالإسلام، مع أن الإرهاب قديم، ففي القرن التاسع عشر في روسيا ظهرت حركة إرهابية ضمّت مجموعة من الشبيبة اليسارية المتطرّفة والعدمية اغتالت العديد من رجالات الدولة الروسية بمن فيهم القيصر. بُرّرت العمليات بأنها تخدم قضية الشعب، وعدم إمكانية القضاء على الاستبداد إلا بالإرهاب. وهكذا خلعت الأفكار اليسارية المشروعية على الإرهاب.

قد يُقال إنّ الانسان ليس شرّيراً في المطلق، وإنما ظروفُه شريرة. يعزّزها أنّ الشّر ليس طبيعة راسخة في النفوس، وإنما دعائمه التي هي الظلم، على الأرض قوية. حاولوا تسويغه تحت عنوان “الشّر الحميد” الذي يستغل قضايا سياسية تشدّ من أزرها بواعث دينية، تكسب من جرائها أنصاراً أشدّاء مؤمنين بها، يُضحّون من أجلها بحياتهم عن قناعة ورضى، ولو أنها خلّفت مآسي، هم أول ضحاياها.

إشكالية الشّر الحميد، تكمن في إسباغها المشروعية على القتل، لكن القتل يُفقد المظلومين مظلوميتهم، والقضية عدالتها، إذ لا تجتمع عدالة القضية مع الشّر، ولو كان حميداً.