صدرت الطَّبعة الأولى من رواية (الشَّاعر وجامع الهوامش)، للرِّوائيِّ السُّوريِّ فوَّاز حدَّاد عن دار رياض الرَّيِّس للكتب والنّشر في بيروت سنة 2017، وقد جاءت هذه الرِّواية في حدود 516 صفحة من القطع المتوسِّط، وصمَّم غلافها الأستاذ علي كمال الدِّين، مستعينًا بلوحة للفنان مارك روثكو، وجعل الكاتب روايته في60 فصلًا، استهلَّها بالفصل الأوَّل بعنوان الشِّعر ضرورة، ثمَّ توالت فصول هذه الرِّواية: 2-الاستدعاء: قضيَّة حقيقيَّة، 3-اليد الخفيَّة، 4-ظاهرة دينيَّة، 5-القوَّة المتحكِّمة بالكون من الأزل إلى الأبد، 6-حادثة اختفاء: قصَّة مخابراتيَّة، 7-في الطِّريق إلى مغربال: شعراء زنادقة، 8-الزَّمن الأدبيُّ في مغربال؟ 9-سهرة تحت ضوء القمر: في التَّعفيش والمعفِّشين والمعفَّشين، 11-أمسية شعريَّة: سخاء الوقود الأخضر، 12-صناعة الماضي: الشَّاعر الضَّال، 13-مونولوج العزاء: ستكون قُرانا مقابر، 14-رسالة من حسين1، 15-غرام قديم: سامحني، 16-الإنسان والمصير: يمكنك اعتبار أنَّه لم يرحل، 17-اللِّقاء والصَّمت، 18-ليته يكون كابوسًا، 19-دمشق الحبِّ والحرب، 20-رسالة من حسين2، 21-الرِّواية الكبرى، 22-رحلة المتاعب: هل بدأت؟ 23-سلاح الثَّقافة: مراكمة الجهل، 24-معضلة الوجود واللَّاوجود، 25-قوَّة العقل: تنوُّع التَّفاهم القسريِّ، 26-قانون المخابرات، 27-نوبة غرام: نوبة انتقام، 28-قصَّة منزليَّة: الحياة إنَّها مأثرتنا الوحيدة، 29-قتلة وضحايا: لا عجب، للمثقَّفين مخاوفهم، 30- رسالة من حسين3، 31-حقوق ثقافيَّة: أقلِّيَّات وأكثريَّة، 32-التَّمثيليَّة: تعليمات واردة من دمشق، 33-ذكريات الغابة: مصادقة الملائكة، 34-الرِّواية والأقنعة: ليتها لا تضيف قصَّة أخرى، 35-الشَّاعر المحموم، 36-الحلم والكابوس، 37-محنة الدِّين مع الدِّكتاتوريَّة، 38-الطَّريق الشَّهوانيُّ إلى العلمانيَّة، 39-قصَّة محلِّيَّة: تصفية حسابات، 40-الحريق: المأساة تتقدَّم، 41-المستشار: جامع الهوامش، 42-اللِّواء: الإمام المعصوم، 43-نظريَّة في الخلود: تصوَّر أنَّه سيلاحقنا في الأبد إلى الأبد، 44-الحنين، الحبُّ، الخيانة، السِّياسة، وأيضًا الطَّائفيَّة والطَّوائف، 45-التَّناسخ، التَّماسخ، التَّفاسخ، التَّراسخ، 46-الشَّيخ حامد عميل الطَّائفة السُّنِّيَّة، 47-قصَّة الأستاذ أحمد، 48-قصَّة الأستاذ أحمد (تابع)، 49-مؤامرة سنِّيَّة: لحظات حاسمة، 50-أمور كثيرة بحاجة إلى شرح، 51-المسألة دين بلا إله، 52-منظر من أعلى التَّلَّة، 53-رسالة من حسين4، 54-ملحمة البحث عن إله1، 55-ملحمة البحث عن إله2، 56-حسين وداعًا، 57-المستشار في عزلته، 58-السَّاعات الأخيرة في مغربال1، 59-السَّاعات الأخيرة في مغربال2، 60-صيغة الإله.

ثيمة الفصل الأوَّل: كيف يتحوَّل كثيرٌ من الشُّعراء إلى أبواق ومُخبرين
ينهض الفصل الأوَّل (الشِّعر ضرورة)، على ثيمة الشَّاعر الجوَّال، الَّتي تحاكي ثيمة شعراء التّروبادور الجوَّالين في الأندلس، قبل قرون من الزَّمن، وتعكس ضوءها على شاعر البودكاست المرتزق الجوَّال من مسِّيحة الجوخ في وقتنا الرَّاهن، وينتقد فوَّاز حدَّاد من خلال هذه الثِّيمة شرذمة من أولئك الشُّعراء، الَّذين شوَّهوا نقاء الإبداع لدى شعراء التّروبادور القدامى، ولوَّثوا صورة شعرهم، عندما تحوَّلوا إلى أبواق مرتزقة مستعدَّة لإغراق منصَّات الفضاء الأزرق، ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بمنظومات الشِّعر، وجعجعة الإيقاع، وجرس الخُطب والتَّقارير؛ لأنَّهم لا يتنفَّسون الشِّعر وحسب، بل يجترُّونه -في زحمة التَّنافس على الظُّهور والاسترزاق- مثل الدَّواب العاشبة في حقول الفضاء الإلكترونيِّ، وربَّما ينشدون قصائدهم الفريدة إعجابًأ بأنفسهم في بيوت الخلاء، أو يتجشَّؤونها بعد المآدب في كلِّ أمسية لسبب أو دون أدنى سبب، وكأنَّ الشِّعر في ظلِّ مأساتنا الرَّاهنة -حقًّا-ضرورة، مثل الخبز والماء والهواء.

تقول الحقيقة غير هذا تمامًا، لكنَّ فوَّاز حدَّاد يلتقط هوسَ الظُّهور، لدى بعض المخبرين من أنصاف الشُّعراء والمثقَّفين، وينطلق من استعدادهم النَّفسيَّ، وسيكولوجيا الدَّناءة، لدى هذه الطَّائفة من المرتزقة، ويرسم صورة بعضهم بحسٍّ روائيٍّ عالٍ، ويستشرف بعضًا من ملامح أبطال، أو (دون كيشوتات)، هذه الظَّاهرة قبل انكشافهم في واقعنا الرَّاهن بسنوات عدَّة، وكما تحوَّل كثير من الشُّعراء الدُّون كيشوتات إلى أبواق، تسترزق على الأبواب في عصور سالفة، لم يكن بعض شعراء الثَّورة السُّوريَّة هنا وهناك بدعًا مختلفًا عن هذا النَّموذج، فاستعدادهم النَّفسيُّ كفيل بتحويلهم إلى أبواق، تسبِّح بحمد أسيادهم من أرباب الدَّراهم، أو أصحاب البسطار العسكريِّ في كلِّ زمان ومكان. يغرقون-بإيعاز من أسيادهم-كلَّ الفضاء بالشِّعر، بسبب أو دون أيِّ سبب، وكأنَّ الشِّعر حقًّا ضرورة كالخبز، والماء والهواء، وما حديث فوَّاز حدَّاد عن ثيمة (الشِّعر الضَّرورة)، أو (الشَّاعر الضَّرورة)، إلَّا نموذج يلتقطه إحساس روائيٍّ مرهف، فقد كلَّف حزب البعث الحاكم في رواية حدَّاد: (الشَّاعر وجامع الهوامش)، ومن خلال شُعبة الأمن السِّياسيِّ، وفروعه الأمنيَّة الأخرى منذر رئيس اتِّحاد الكتَّاب؛ ليُجنِّد الشُّعراء، وليصير كثيرًا منهم-وكما جرت العادة، وتحت شعار نشر الثَّقافة-أبواق هذه المرحلة الحسَّاسة، لدى صاحب هذا المنبر أو ذاك، وما ذاك -وبحسب الشِّعارات المعلنة والمرفوعة- إلَّا ليؤدُّوا دورهم في نشر المتعة الشِّعريَّة على التَّساوي بين أبناء الشَّعب السُّوريِّ المقهور في البوادي والأرياف والمدن، وليزكموا أنوفه، ويثقبوا آذانه بالشِّعر المنشور في فضاء (البودكاست والسُّوشال ميديا).

وبرغم اقتناع الشَّاعر مأمون الرَّاجح، بأنَّ الخبز والماء والكهرباء أكثر ضرورة من الشِّعر في وقتنا الرَّاهن، فقد كُلِّف على مَضضٍ بقيادة وفد من شعراء النِّظام، لنشر الشِّعر في كلِّ فضاء، وكُلِّف آخرون-على أرض الواقع- وبعد نَشْرِ رواية فوَّاز حدَّاد بتكريس الرَّداءة، من خلال سياسة حزب البعث ذاتها، وراحوا يسجِّلون البودكاستات الشِّعريَّة، وينشرونها في كلِّ مكان. وبرغم امتعاض الشَّاعر مأمون الرَّاجح المُعلن من شِعار المهمَّة، وامتعاضه غير المعلن من جرائم النِّظام، وسلوك حزب البعث الحاكم، واتِّحاد الكتَّاب معًا، وبرغم محاولته التَّنصُّل من هذه المهمَّة، لَطَّفَ منذر رئيس اتِّحاد الكتَّاب شعار مهمَّته، وجعله (الشِّعر ضرورة كالهواء)، فعلَّق له مأمون الرَّاجح: “إذا كان الهواء تسمَّم، فهل سيسلم الشِّعر؟”[1]، وقصد بذلك هواء غوطة دمشق، الَّذي لم يعد صالحًا للتنفُّس، بعد تلويثه بغاز السَّارين في مجزرة الكيماويِّ الشَّهيرة، وأصابت شظايا السَّرد الرِّوائيِّ في هذه العبارة شعارير التَّطبيل وأبواق التَّشبيح، الَّذين لوَّثوا الفضاء بأنفاس بودكاستاتهم الموبوءة على منصَّات قادة حزبهم ومموِّليهم، أو أولياء نعمتهم، وتمكَّنوا في نهاية الأمر من دفع مأمون الرَّاجح مع وفده إلى مغربال قرية أستاذه، بعد تكليفه حزبيًّا بهذه المهمَّة، من قبل منذر رئيس اتِّحاد الكتَّاب.

لكنَّ متملِّقي المرحلة الرَّاهنة -وبعد سنوات قليلة من نشر حدَّاد روايته- قدَّموا أنفسهم وبإرادتهم المطلقة، ليكونوا أبواقًا لدى هذا وذاك، فصاروا نموذج مسعود الشَّاعر المتاجر بشعره، أو نظمه الخالي من كلِّ موهبة وإلهام، ما عدا إلهام أجهزة الاستخبارات، بحسب جملة استشرافيَّة مشرقة في سرد حدَّاد، ومع ذلك بقي مسعود-وبرغم تشبيحه-في نظر صُنَّاع القرار مجرَّد سلعة رخيصة، تعرض نفسها في سوق النِّخاسة، وكلَّفوا الشَّاعر مأمون الرَّاجح بهذه المهمَّة، الَّتي لا يحبُّها، ونحُّوا مسعود الخالي من كلِّ موهبة عنها، ما عدا مواهب تمسيح الجوخ وكتابة التَّقارير، فعاد الشَّاعر مأمون الرَّاجح إلى قريته، وأقام فيها أمسية شعريَّة بعد مغادرتها بثماني سنوات.

تفرَّد الشَّاعر الشَّبِّيح مسعود عن غيره من الشُّعراء بنوع من الإلهام الخاصِّ به، ذاك الَّذي يستمدُّه من فروع المخابرات والتَّشبيح بعدما تقاعد، وثقل وزنه، وفقد كلَّ إلهام شعريٍّ، ومع أنَّ مسعود لم ينجح في تنحية الشَّاعر الحقيقيِّ مأمون الرَّاجح، ليستجدي مهمَّة نشر الثَّقافة الشِّعريَّة الضَّروريَّة الَّتي لا يريدها مأمون أساسًا، إلَّا أنَّه مسعود الدَّعيّ، أفلح في إقناع المكتب التَّنفيذيِّ لاتِّحاد الكتَّاب، بتوسيع مهمَّة وفد مأمون الشَّاعر، “فأضيفت إليها الدَّعوة إلى تجميع الصُّفوف وراء القيادة الحكيمة، وتوعية النَّاس بحقيقة الهجمة الإرهابيَّة، والمؤامرة الكونيَّة الَّتي يتعرَّض لها البلد من الجماعات الإسلاميَّة المتطرِّفة. وأُضيف إليها عشيَّة التَّحرُّك من دمشق بتوصية من الحزب مهمَّة تشجيع الشُّبَّان للانضمام إلى اللِّجان الشَّعبيَّة، للدِّفاع عن قراهم وبلداتهم، وحثُّهم على الالتحاق بالجيش، بعدما بات يشكو من تناقص أعداده”[2].

الغموض شعار المرحلة
لم يفلح الشَّاعر مأمون الرَّاجح بالتَّنصُّل من مهمَّة نشر المتعة الشِّعريَّة بالتَّساوي بين أبناء الشَّعب، برغم تهافت الشعارير المرتزقة عليها، من أمثال مسعود الموهوب بالاسترزاق على أبواب أسياد المال ومنابرهم، من خلال العمالة معهم ضدَّ أبناء وطنه، الَّذين يتاجر بقضيَّتهم ظاهرًا، ويخونها بكتابة التَّقارير ضدَّ كلِّ حرٍّ أصيل حقيقة. وقدَّم حدَّاد واحدة من مقولاته المثقلة بالفكر الرِّوائيِّ النَّقديِّ اللَّاذع على لسان شاعره مأمون الرَّاجح، وقال: “لو كان الأمر عائداً لي لألغيت الجولة، لعدم توفُّر الشِّعار الملائم؛ تعلمُ جولة بلا شعار، ليست إلَّا شعارًا بلا جولة”، فأصابت شظايا سرد الحدَّاد الوجيز المثقل بثمار التَّكثيف الدَّلاليِّ دجَّالي الشِّعارات من المتاجرين بقضايا الأمَّة، من قادة الممانعة وأدعياء الثَّورة معًا، وعبارة واحدة، مثل: (جولة بلا شعار ليست إلَّا شعارًا بلا جولة)، تذكِّرنا بسفسطة المجرم بشَّار الأسد في خطاباته، كما تذكِّرنا بجعجعة بعض الشَّعارير في مهرجانات المحسوبين على الثَّورة والمعارضة، ممَّن يسرقون باسم الثَّورة، وينتفعون منها، ويسترزقون برفع شعاراتها، ويبيعون الأوهام لأبطالها وشرفائها. ولأنَّ التِّجارة بالشِّعارات الخُلَّبيَّة والمقولات الخُنفشاريَّة، لم تعد تخفى على المتلقِّي الحرَّ النَّبيل المغتاظ من المتاجرين بشعارات المقاومة داخل الوطن، وشعارات الثَّورة في المناطق المحرَّرة، وخارج الحدود خلص صنَّاع الأيديولوجيا من قادة الحزب الحاكم داخل الوطن، وأسياد المال خارجه إلى الاعتماد على الغموض والأبواق في حشد الجماهير وتجييشها؛ ولذلك اعتمدوا على شعار: (الشِّعر ضرورة)، وكان هذا الشِّعار عنوان الفصل الأوَّل من رواية فوَّاز حدَّاد: (الشَّاعر وجامع الهوامش)، وصوَّر فيه كثيرًا من معاناة الشُّرفاء بسبب الأبواق، واستشرف أو تنبَّأ ببعض جوانب معاناتنا الرَّاهنة منهم وبسببهم، قبل وقوعها منذ أيَّام كتابة الرِّواية في مطلع الثَّورة، ليظهر سؤال الفصل الأوَّل المثير: لماذا الشِّعر وطبول الشُّعراء ضرورة؟

وحده الإنسان الحرُّ النَّبيل يعرف ضرورة الشِّعر، ودور طبول الشُّعراء في مثل هذه المرحلة، فالشَّعارير الأبواق ضرورة لدى أسياد المال، ليسبِّحوا بحمدهم، ويلمِّعوا صورهم، وهم يأكلون فُتات موائدهم، وضرورة لدى قادة الأحزاب، لينشروا أيديولوجيَّاتهم؛ لأنَّهم أكثر النَّاس قدرة على التِّجارة بشعارات الثَّورة، أو نشرِ الثَّقافة الزَّائفة والقيم الفارغة، وما ارتزاقهم على منابرهم أسيادهم، إلَّا دليل على خوائهم برغم جعجعتهم، ومع هذا يبقى هؤلاء، نظمُهم وجعجعتهم ضرورة، ليُشغلوا بكثير من هُرائهم أبناء الأمَّة من (السُّوريِّين الأعداء)، المقسومين بين مؤيِّد للمجرم طوعًا، أو ساكت عن جرائمه كرهًا، ومتحالف مع أسياد المال، وخائن لدماء الشُّهداء، وهناك قسم ثالث تنطوي عليه حيلة نشرِ الفكر والثَّقافة، ولا يعرف حقيقة الأيديولوجيا المقيتة، الَّتي يحملها أبواق تلك المنابر، ويدسُّون سمومهم الأيديولوجيَّة تحت شعارات غامضة، مثل: (الشِّعر ضرورة)، و(الثَّقافة ضرورة)، ويبيعون الأوهام والثَّقافة الزَّائفة، ويقبضون ثمن كلِّ بودكاست ينشرونه عند المساء.

كيف تغدو الهوامش متنًا روائيًّا مثيرًا؟
لم نسرد في مطلع هذا المقال أسماء فصول الرَّواية لعرضها أو تذكُّرها، وإنَّما أوردناها لما تُشفُّ عنه هذه العناوين من مقولات فكريَّة عميقة وثقيلة، وإن تفاوتت درجات شفافيَّتها بين الوضوح المطلق، كما في فصول: (التَّعفيش والمعفِّشين والمعفَّشين)، و(حقوق ثقافيَّة: أقلِّيَّات وأكثريَّة)، و(الطَّريق الشَّهوانيُّ إلى العلمانيَّة)، والتَّجاوب بين الوضوح والدَّلالات الرَّمزيَّة، كما في فصول: (سلاح الثَّقافة: مراكمة الجهل)، و(معضلة الوجود واللَّاوجود)، و(الرِّواية والأقنعة: ليتها لا تضيف قصَّة جديدة)، ثمَّ تصل الرِّواية إلى ذروتها في فصل: (المستشار: جامع الهوامش)، وترتفع وتيرة الدَّلالات الرَّمزيَّة، وتتطاير شظايا الفكر الرِّوائيِّ العميق، لتصيب بنيرانها كثيًرا ممَّن سكنت الأشواك في ثيابهم، لتنخزهم دبابيسها، وتحرق بلظاها دعاوى ثقافتهم الزَّائفة، الَّتي ينشرونها، وترسم صورتهم الحقيقيَّة قبل اكتمال مشهدها بسنوات عدَّة، كما في فصول: (الحريق: المأساة تتقدَّم)، و(اللِّواء: الإمام المعصوم)، و(منظر من أعلى التَّلَّة).

لم تكن الأسماء لدى فوَّاز حدَّاد اعتباطيَّة أبدًا، بدءًا من اسم الرِّواية: (الشَّاعر وجامع الهوامش)، مرورًا بأسماء الفصول، وأسماء الشُّخوص ذاتها، فهواجس الشَّاعر مأمون الرَّاجح ومونولوجه الذَّاتيُّ، تحمل كثيرًا من رجاحة العقل وأسئلة السُّوريِّين المنطقيَّة والعقلانيَّة، الَّتي تفضح الشُّعراءَ الأبواق في هذه المرحلة، وتقول لهم: مَن أنتم، ومَن أتى بكم، ومَن يموِّلكم، ولماذا يموِّلكم، ولماذا ينشر أعمالكم؟ ولتكشف مسعود الدَّعيَّ الموهوب بكتابة التَّقارير، وصناعة المهرجانات، لا بصناعة الثَّقافة الحقَّة، ومع ذلك فهو غبيٌّ، وسعيد أو مسعود بغبائه على قدر فهمه لقشور السَّعادة، واعتقاده بأنَّها ظهور في المهرجانات، أو بُهرج خدَّاع من المتابعات، وإعجابات السُّوشال ميديا. وكذلك كان لمنذر رئيس اتِّحاد الكتَّاب من اسمه نصيب أيضًا، إنَّه نذير شؤم بكوارث أمِّتنا؛ ولهذا قد تُحيل الأسماء عند فوَّاز حدَّاد إلى عكس دلالتها، فقد يظهر الحُسن الظَّاهريُّ في اسم حُسين، وقد تكشف أفعاله في التَّطبيل وتمسيح الجوخ عن القبح ذاته، ليتجادل ظاهر الاسم الحسن مع حقيقة الفعل القبيح، وتميل الكفَّة لصالح أيديولوجيا الخراب، لدى قادة الأحزاب ومموِّليها، وفي كثير من الأحيان يجلب الشَّاعر المرتزق الأجير الشُّؤم كلّ الشُّؤم، برغم استئجاره لنشرِ الأنس بين الجماهر، فيغدو-وبقناعة تامَّة-مجرَّد كاتب من كتبة التَّقارير.

استطاع فوَّاز حدَّاد أن يجمع كثيرًا من هوامش الحياة، وصنع من تناقضاتها أو جدليَّة أضدادها متنًا روائيًّا جميلًا، ومثقلًا بالحكمة والنَّقد العميق، فقام بدوره في النَّقد الاجتماعيِّ بأشكاله المتعدِّدة على أكمل وجه، وصارت الهوامش لوحات فنِّيَّة في مشاهد سرد روائيٍّ عميق ومتناغم، وخلصنا بعد قراءة روايته: (الشَّاعر وجامع الهوامش)، إلى أنَّه: (ليس بالشِّعر وحده تحيا الشُّعوب)، ولا بخطابات الشُّعراء أيضًا، وفي كثير من الأحيان يمارسون التَّضليل والتَّطبيل، حتَّى وإن رفعوا شعارات مثل: (الشِّعر ضرورة كالخبز والماء والهواء)، أو استبدلوها بشعارات غامضة: (الشِّعر ضرورة)، يبقى الوعي وحده -لدى السُّوريِّين الشُّرفاء- في مقدَّمة الضَّرورات، لا لتموت الشُّعوب بمسكِّنات الشِّعر وأبواق الشُّعراء، وإنَّما لتحيا بالوعي، والفكر الحرِّ، والخبز والماء والهواء!