في رواية “الشاعر وجامع الهوامش” سيعثر القارئ على أكثر من حكاية تباينت من حيث كثافة حضورها بين دفتي النص لكنها كانت على ذات المستوى من الأهمية والتأثير في روحه ونمو أحداثه كما في اكتمال مشاهده تماماً كخصلات شعر شكلت مع الحامل السياسي والفكري للنص ضفيرة تضاف إلى المشروع الروائي للكاتب.
مأمون و ريم:
لعل قصة حب – أو لنقل ثورة مشاعر – مأمون تجاه ريم ابنة أستاذه أحمد التي قضى زوجها في الحرب هي الأقل حضوراً في النص، المشاعر التي خَبَتْ ذات فراق لترتد إليها الروح من جديد لكن بين شاعر تخلت عنه حبيبته للتو وأرملة لم تعد تعرف وجهة مشاعرها، حدث ذلك حين عاد الشاعر مأمون إلى “مغربال” في مهمة كلفته بها السلطة الحاكمة، السلطة التي خدمت مأمون ووفرت له المنصات كي يتألق ويلمع نجمه ويصبح ورقة يمكن اللعب بها ذات حاجة، السلطة التي اختارت مأمون الذي يعلن اعتراضه على كثير من ممارساتها وفضلته على الكثير من المثقفين الموالين لها تحت زعم أن أولئك “عملاء أكثر من اللزوم” يوافقونها في كل شيء وهي تريد أشخاصاً يرونها بشكل أوضح حتى لو وجهوا سهام النقد إليها.
مأمون و شذا:
تتقاطع قصة حب مأمون لريم مع قصة حبه لشذا التي تقرر نهاية الأمر أن تتركه وتعود ثانية إلى زوجها _ سيعلل خالد ضابط الأمن لاحقاً _ سبب فشل علاقتهما بالاختلاف في الدين بين مأمون المسلم وشذا المسيحية التي أعلنت معارضتها للنظام وأعلنت رفضها التمييز بين أديان الوطن الواحد لكنها نهاية الأمر سترتد إلى دينها و تعود لزوجها.
حسين و ملف المغتصبات و المغتصبين:
نشط الإعلامي حسين صديق الشاعر مأمون في مجال توثيق ورصد حالات اغتصاب النساء في المعتقلات منطلقاً من حالة أولى وقعت بين يديه إلى أن اكتمل الملف وصار وثيقة سلمها بصعوبة بالغة إلى إحدى منظمات حقوق الإنسان، لينتقل بعدها إلى توثيق حالات اغتصاب الرجال، لكن إعدام حسين على إحدى الحواجز في ساحة عامة كان أسرع من أن يكتمل الملف ويسلك سبيل الملف الأول.
المحور الأساسي للنص:
كانت السلطة تبحث عن صيغة لإله جديد، ليس تقليدياً قديماً كالله، وليس حديثاً بحيث يُسْتَبْدَل كثيراً، إله بمنزلة الله تستطيع السلطة من خلاله أن تفعل ما تشاء، فهي ترى أن الإسلاميين احتكروا الله ويعملون في ظله وتحت رايته وباسمه، لذلك وجب أن يكون للسلطة الإله الذي يبرر لها أفعالها أيضاً، بمعنى آخر كانت السلطة تسعى إلى إنكار الله كي تعيد تشكيله من جديد.
كانت مهمة الشاعر مأمون إدارة ومتابعة ومراقبة الجدل المحتدم في قرية “مغربال” من أجل تأسيس دين جديد يجمع كل أبناء الوطن أكثرية وأقليات، كان الصراع منحصراً بين كتلة الشاب المتنور كريم ورفاقه من جهة وكتلة اللواء نادر ورفاقه الضباط وصف الضباط المتقاعدين من جهة ثانية، الأولى تطرح نفسها كجماعة تدعو إلى شأن ثقافي ثم روحاني ممزوج بالمادية نحو تحقيق السمو الإنساني، والثانية كجماعة تدعو إلى دين غامض بأسرار محفوظة لديها فقط.
نهاية الأمر يعين اللواء الأستاذ إسماعيل المثقف والمتبحر مستشاراً له، ليقوم الأخير بطرح فكرة أن يكون اللواء هو الإمام المعصوم للدين الجديد، ويطول الجدل إلى أن تستشعر السلطة الخطر من أن ينفلت الرب الجديد من يدها هي التي ترى أن عمل الرب الجديد لن يكتمل إلا بدعم السلطة و أجهزتها.
تشدد السلطة على الطلب من المستشار سرعة ابتكار طريقة تُكَيِّفُ اللهَ مع مآربها أو خلق رب جديد يتفوق على رب الإرهابيين. وهنا تخشى السلطة أن يعثر المستشار على صيغة الإله الجديد و يحتفظ بها لنفسه.
يحار المستشار بين عدم قدرته – رغم كل ما قرأ وما جمع من هوامش – على نكران وجود الله وتحييده لصالح فكرة إله جديد، وبين أن تنفذ السلطة حكمها به لعدم تخليه عن صيغة الإله الجديد التي تظن أنه امتلكها ويخبئها لغاية في نفسه قد تكون الانقلاب على النظام.
لكن المستشار ينهار أخيراً ويتخلى للسلطة عن الصيغة التي توصل إليها: “النظام هو الله”.
كان المستشار شغوفاً بالكتب، الأمر الذي استغلته السلطة فأغرقت بيته بالكتب والمجلدات لتغريه بالعمل على ابتكار الإله الجديد، غرق المستشار في مكتبته وملأ حواشي صفحات كتبها بالملاحظات التي خنقته أخيراً فصار ساعة الحكم عليه بالموت جثة بين هوامشها.
يبقى النص الروائي مفتوحاً لدى فواز حداد، لأن الحياة برأيه مفتوحة والقصص لا تنتهي، لذلك نراه في “الشاعر وجامع الهوامش” يعود إلى رواية “السوريون الأعداء” وكأنها حلقة سابقة في سلسلة ستطول، حدث ذلك حين زار الأستاذ أحمد دمشق وسأل عن سبب اغتيال المهندس سليمان، الأمر الذي تكرر في نهاية الرواية عندما أعاد خالد سرد حادثة تصفية المهندس الشخصية المحورية في “السوريون الأعداء”.
يدخلنا الكاتب في تفاصيل إخراج نصه حين يعرض لنا الحوار الذي دار بينه وبين نفسه، أولاً حول مدى أهمية ذكر قصة حب مأمون لشذا في الرواية، وثانياً حول إمكانية النظر إلى تلك القصة من زاوية قد تنزاح قليلاً عن الواقع، فيرى نهاية الأمر أن شذا التي أحبت مأمون غير شذا التي عادت إلى زوجها، وأن الخداع الذي وقع يكمن في أن مأمون لم يدرك أنهما مختلفتان.
النص مليء بالمقولات التي تصلح أن تكون عناوين مرحلة، يحتوي أحداثاً من لحم ودم، يسرد الواقع كما هو ليس ببرودة حيادية المراقب الذي لا صلة له بما يجري، بل بحرارة مصداقية من رأى الدماء ومن تلمس الأوجاع.
إن رواية “الشاعر و جامع الهوامش” تفتح النوافذ على مستويات حوار مختلفة:
المستوى الأول: حوار ربما يراه الكاتب ممكناً بين أطراف لم يعد من السهولة أن تقبل الحوار، وربما أراد أن يقول إن الشيخ حامد والأستاذ أحمد وكذلك ريم هم نماذج أمل يعول عليه.
المستوى الثاني: حوار حول كيفية تخليص الإنسان العبد من خضوعه وخنوعه واستسلامه الإنسان الذي يُوَصِّفُهُ “غوستاف لوبون” في كتابه “سيكولوجيا الجماهير” بالقول:
“الإنسان ليس متديناً فقط عن طريق عبادة آلهة معينة، وإنما أيضاً عندما يضع كل طاقاته الروحية وكل خضوع إرادته وكل احتدام تعصبه في خدمة قضية ما أو شخص ما، فإنه يصبح هدف كل العواطف والأفكار وقائدها”
وفي الرواية نجد الأستاذ أحمد يقول للشاعر مأمون:
“أتعرف ما الذي بات يثقل عليَّ؟ صمت الله”. من هنا يبدأ الحوار.
المستوى الثالث: حوار حول كيفية تخليص الشعوب من سادة أسسوا لهذه العبودية من أجل تحقيق مآربهم في السلطة و الحكم، السادة الذين يُوَصِّفُهُمْ “غوستاف لوبون” في كتابه “سيكولوجيا الجماهير”:
“إن مؤسسي العقائد الدينية والسياسية لم يؤسسوها إلا عندما عرفوا كيف يفرضون على الجماهير عواطف التعصب الديني، هذه العواطف التي تجعل الإنسان يجد سعادته في العبادة، وتدفعه لأن يضحي بحياته من أجل من يعبد، وهذا ما حصل في كل العصور”.
“الشاعر وجامع الهوامش” حوار مفتوح، حكاية لا تنتهي، و كما قال الكاتب: “رواية كبرى” واستطرد: “هي رواية حافلة بالمعميات والموت والدماء، عبثيتها غطاء قسوتها، أما غياب الله فمنشأه البحث عنه”.
سألت ريم مأمون: “بماذا تفكر؟”
قال: “أفكر في أن البشر هم سعادة البشر، أو تعاستهم. وأفكر أيضاً، لو أن الناس كانوا أكثر وعياً لوفروا على أنفسهم عذابات كثيرة.”
“الشاعر وجامع الهوامش” مدىً مفتوحٌ على مأساة نهاياتها مؤجلة، يوجز فواز حداد فيقول: “نحن في عالم مدمر، فلماذا لا نكون حطاماً؟ شفاؤنا يتطلب شفاء عالم بأسره”.