رغم أن الحرب السورية لم تضع أوزارها بعد، ولا يزال الشعب السوري يعاني ويلاتها إلا أن الروائي فواز حداد أبدع عنها روايتين، فقد أصدر “السوريون الأعداء” ، وها هو يصدر “الشاعر وجامع الهوامش” (دار رياض الريس للنشر)، والرواية التي يبدأ عنوانها بالشاعر تصف المثقفين بأنهم “متوافرون بكثرة، ويقنعون بالقليل، الطريف أنه لا تنقصهم الحجة، يؤدلجون العمالة للنظام على أنها امتياز تبرره الوطنية”.
أما شخصية الشاعر مأمون الرّاجح فتمثل حالة نموذجية للمثقف الذي يجيد اخفاء حقيقته حتى عن نفسه، ويتعاون مع نظام لا يرضى عنه في قرارة نفسه، بل قد يكون من داخله معارضا له، يحدث أن يتم تكليفه برئاسة وفد يقوم “بجولة أدبية في محافظات القطْر وبلداته، بهدف توزيع متعة الشعر بالتساوي بين أفراد الشعب”.
فوزارة الثقافة تعلن عن مساهمتها في الحرب بالشعر؛ وذلك بإطلاق شِعار: الشعر ضرورة كالخبز أو الماء أو الهواء، وإتحاد الكتاب يقترح “الدعوة إلى تجميع الصفوف وراء القيادة الحكيمة”، أما مأمون الذي تم اختياره بعناية فلم يكن مسموحا له بالاعتذار، رغم أن رأيه: “الشعر ليس ضرورة. الأكثر ضرورة هو الخبز والماء والكهرباء”.
وحينما يستدعيه الضابط خالد إلى إدارته الكائنة بأحد القصور الرئاسية، يصدمه بوصفه لمؤيدي النظام من الشعراء بأنهم: “عملاء لنا أكثر من اللزوم يؤيدوننا في كلّ شيء، نريد أشخاصا يروننا بشكل أوضح، ولو كان فيه انتقاد لنا”.
الشعر ليس ضرورة. الأكثر ضرورة هو الخبز والماء والكهرباء
مطلوب إله
تشكيل الوفد والمخاطر التي اعترضت طريقه يمكن اعتبارها مجرد هامش على المتن الذي تشكله المهمة الحقيقية للوفد، لذا اقتصرت الجولة على زيارة وحيدة لقرية مغربال، وهي قرية بين الساحل والجبل، ينتمي أغلب أهلها إلى الطائفة العلوية، وتقع وسط منطقة تختلط فيها كل الطوائف السورية، وسكانها يعانون معاناة مزدوجة، فالنظام يستهين بهم لأنه يضمن ولائهم، ومعارضوه يحسبونهم على النظام، والضيعة بحكم موقعها كانت مركزا للتهريب، وفي الحرب أصبحت مصدرا للشبيحة.
في القرية المتخيلة تنشأ حركة دينية غامضة، يدعو أصحابها وهم ضباط متقاعدون يتزعمهم اللواء الركن نادر العارف إلى تصحيح الدين، بالعودة إلى الأصول، وإحياء شخص الإمام المعصوم، وبدأوا دعوتهم بإذن النظام ورعايته، وحضروا اجتماعاتهم بالملابس العسكرية. لكن تظهر في مقابلهم حركة تصحيح التصحيح، التي نادت بإبطال ألوهية الإمام علي لأن ألوهية البشر باطلة، النظام الذي يرعى هذه الخلافات والتناقضات يخشى أن تتسع هوتها فتؤثر على تماسك ظهيره الطائفي، لذلك كلف شخص مضمون الجانب (مأمون الراجح) ليرصد الحالة من الداخل، فيكون عينا للنظام، وأيضا أداة يدير بواسطتها الصراع لمصلحته، لذلك منحوه صلاحيات واسعة أقلقت الضابط المكلف بتسهيل مهمة مأمون، لكن الضابط خشي من تزايد نفوذ مأمون، فأخضعه لرقابة دائمة، فدبر لاغتياله باعتباره عميلا للطائفة السنية، وهو الأمر الذي كان سينهي المهمة دون نجاح، فقرر النظام التخلص من الضابط بقتله لضمان إنجاح المهمة، وهي ليست انهاء الصراع الديني المحتدم بل إبقائه تحت السيطرة، لذلك سمحوا للواء السابق نادر العارف، الذي كان على وشك خسارة معركته ضد الشباب، باستخدام مثقف آخر هو سليمان أو جامع الهوامش، فيعينه مستشاراً له.
ويكلفه الضابط خالد بمهمة أخرى موازية لمهمة مأمون، وهي أن يخترع إلها للدين الجديد، لكن الشاعر لا يحبذ الفكرة، يقول للضابط خالد: “قصة البحث عن إله جديد ليست بالاتجاه السليم ولا المعقول، إنها مضيعة للوقت، طالما هناك إله راسخ في عقول الناس، فلماذا يضاف إلهاً ثانياً، إلا إذا كان الهدف منه التشويش على معتقداتهم؟”، فيأتيه الرد “أية حركة دينية إن لم تنشغل بالقضايا اللاهوتية، ستعيث فساداً في الأرض ويكون ضررها أكثر من نفعها”.
أما المستشار المثقف قارىء الكتب وجامع الهوامش فيرد الجميل للواء بتعيينه إماماً معصوماً، وحتى لا يتسبب جهل اللواء في إفساد الأمر يتم تغييبه، وحتى لا يصبح المستشار نفسه مشكلة أو إلها فيما بعد، وليبقى جامع الهوامش هامشا، فلم يتم الموافقة على استخدامه إلا بعد وضع تصور كامل لكيفية التخلص منه، وبحسب الخطة “فالشاحنة تنزل حمولتها، الصناديق تنفرط محتوياتها من الكتب على الأرض، السائق يحمل أكداساً منها ويرميها إلى المدخل والنوافذ، الشاحنة واقفة.. جرافة ضخمة تضرب الجدار، تقتحم البيت، وتتابع التقدم إلى داخله المستشار في الداخل خنقته الكتب والهوامش.
الجرافة لا تتوقف عن العمل، تتابع التقدم؛ تهدم الجدران وتسوى الكتب مع الأرض، يتصاعد غبار كثيف يحجب الرؤية، الجرافة تسحق كل ما يصادفها، والغبار يبتلعه. ضياء يشق طريقه وسط الغبار؛ لا أثر للهوامش، تحللت وتلاشت في الفراغ”. وكان لابد أن يموت المستشار، فقد انتهى دوره، ولم يكن الدين الجديد إلا هامشا لمتن هو الدين الحقيقى للنظام، وهو المخابرات التي تصفها اللوحة المعلقة في مكتب الضابط خالد بأنها نور السموات والأرض، أي حلت محل الله.
أية حركة دينية إن لم تنشغل بالقضايا اللاهوتية، ستعيث فساداً في الأرض ويكون ضررها أكثر من نفعها
أصوات وظلال
رواية “الشاعر وجامع الهوامش” ترسم صورة لهيمنة النظام على مقدرات الشعب السوري، لذلك كان السرد بضمير الغائب مناسبا، وقد اعتمده الكاتب في أغلب فصول الرواية، بينما لم يُسمعنا من أصوات الشخصيات إلا صوتي الضابط خالد ممثل النظام والمؤكد لهيمنته، والشاعر مأمون صنيعة النظام، على العكس من العنوان الذي غيب الضابط واستحضر المستشار، فالواو في العنوان “الشاعر وجامع الهوامش” لم تكن للعطف ولا للحال، بل تفيد المعية، فالاثنان معا في معية الضابط خالد، يؤديان مهمة مخابراتية، ومهمة جامع الهوامش فرعية مؤقتة، لذلك تم تهميشه ولم يمنحه الكاتب فرصة للحكي.
ويلاحظ أن ثمة ظلال من أعمال فواز حداد السابقة تظهر في الرواية، فهو ومنذ عمله الأول “موزاييك: دمشق39” يحفر في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا، ويزيح التاريخ ببراعة إلى خلفية المشهد الإجتماعي، مقدما شخصياته كشهود على الواقع وضحايا له في آن، كما أنه وفي روايتيه جنود الله ثم السوريون الأعداء، يطرح أسئلة عن الدين والثورة، ويواصل طرحها في هذه الرواية، فكأنها أسئلة لم يحسم الواقعي إجاباتها بعد، وإن امتازت الرواية الأخيرة بتناولها لظواهر خطرة أعقبت الثورة، فخصص فصلا هو “سهرة تحت ضوء القمر: في التعفيش والمعفشين والمعفشين”، ليلقى الضوء عليها، كما يؤكد في فصول أخرى على إدارة النظام لها واستفادته منها، فحينما اشتكى مدير المركز الثقافي منهم، قيل له إن لا شئ يمنعهم من تجاوز أي قانون، والضابط يؤكد أهميتهم للنظام بقوله “الجنود يترددون أحيانا إزاء القتل أما هؤلاء فمجرمون بالسليقة”، أما المعفشون الذين يمتهنون اللصوصية، فهم “يدافعون عن الوطن” وإن بالقتل والسرقة. (وكالة الصحافة العربية)
-
المصدر :
- ميدل ايست اون لاين