يقارب السوريّ فوّاز حدّاد في عمله الروائيّ الجديد “الشاعر وجامع الهوامش” تطوّرات الثورة السوريّة التي تمّ تحويلها إلى حرب شاملة يشنّها النظام منذ سنوات على الشعب، استعان فيها بقوّات أجنبيّة طائفيّة ومرتزقة، ودفع البلاد للارتماء في أحضان أكثر من احتلال؛ إيرانيّ وروسيّ، في مسعى منه للمحافظة على هيئة الإقطاعة التي يديرها والتي يتوارثها أبناء عائلة فاسدة مفسدة لا تتردّد عن تدمير مَن يعترض جشعها أو يعارض سياساتها الاستخباراتيّة القمعيّة.
كعادته في بناء أعماله الروائيّة وتحبيكها ينطلق حدّاد من تفصيل صغير يبدأ بنسج الخيوط من حوله، وبناء عليه، يوسّع الدوائر من حوله، حتّى يتحوّل ذاك التفصيل؛ الحدث، إلى نقطة صغيرة في بحر الأحداث المتراكمة التي يؤدّي إليها أو يتسبّب بها، ويبقيه مرتكزاً يعود إليه ويشدّ إليه محاوره المعالَجة. ويكون الحدث المعتمد في “الشاعر وجامع الهوامش” هو تكليف أحد الشعراء بمهمّة إلى بلدة “مغربال” ذات الأكثرية العلويّة في منطقة الساحل السوريّ، وذلك تحت غطاء جولة شعريّة على محافظات البلد للمساهمة بدور ثقافيّ في مواجهة الحرب “الكونيّة” التي يتعرّض لها البلد.
الشاعر مأمون يكون نموذجاً للمثقّف التابع للسلطة، صنيعة النظام بطريقة خبيثة، تراه منحدراً من بيئة سنّيّة، يدّعي العلمانيّة والتمرّد على ما يعتبرها قيماً متخلّفة وما يصفه بالجهل السائد لدى أولئك الذين ينتمي إليهم، يقيم في العاصمة ويحاول البحث لنفسه عن امتيازات ومكاسب، يعمل في صحيفة حكومية، لا يكون من أولئك المطبّلين المبالغين في ثرثرتهم بالإنجازات الخلّبيّة للقيادة، بل يزعم اعتماد أسلوب نقدي متعقّل، كما لا يقدّم نفسه كنموذج تابع مباشر لإملاءات النظام، مع أنّه يكتشف لاحقاً أنّ النظام أفسح له الهامش ليبلور صورته بالصيغة التي يرتئيها له كي يجيّره حين الطلب.
يشير حدّاد إلى أنّ صورة المثقّف المعارض التي يفصّلها النظام للشاعر هي التي تجذب جماهير من بيئات مختلفة، فالمتديّنون لا يجدون فيه خطراً لأنّه متنكّر لانتمائه الدينيّ، ومع تحفّظهم على تحلّله من القيم الدينيّة، إلّا أنّ ترفّعه المزعوم عن انتمائه الدينيّ يكون نقطة تدعم شخصيّته الثقافيّة وتمرّده الشعريّ، كما أنّ أولئك الشباب الذين تسكنهم روح التمرّد يجدون فيه مثالاً للثورة على القيم البالية، وتحدّيه السلطة الأبويّة وخروجه عن السائد والمألوف ليرسم مساره الأدبيّ.
هذه الصورة التي ظنّ الشاعر أنّه رسمها لنفسه هي من رسم النظام واشتغاله عليه، وذلك للاستعانة به وقت الحاجة، ولتوظيفه في مهمّات معيّنة باعتباره مستقلاً صاحب رأي، وما ذلك إلّا حيلة من الحيل التي يلجأ النظام في حربه المفتوحة ـ المفضوحة على الشعب والبلد منذ عقود، ومسعاه الدائب لتعكير مختلف مناحي الحياة ودسّ الدخلاء وأنصاف الموهوبين فيها والتغطية على أصحاب الآراء الحرّة والضمائر الحيّة.
في الوفد الذي يتمّ تشكيله من عدد من أعضاء اتّحاد الكتّاب العرب؛ الذي يعدّ أشبه بمفرزة أمنيّة منه بتنظيم للأدباء، تكون المهمّة المستحيلة بالانتظار، ويكون اختيار الشاعر مأمون رئيساً للوفد، مع منحه صلاحيات واسعة من قبل إدارة تعمل في الخفاء تابعة للقصر الجمهوريّ، للوقوف على حقيقة صراعات دينية تعترك في البلدة بين أبناء الطائفة أنفسهم من أجيال مختلفة، البلدة التي تعدّ خزّاناً بشريّاً يعتمد عليه النظام في حربه على الشعب.
يتعرّض الوفد لبعض من المواقف، سواء أثناء تشكيله أو بعد انطلاقه في الطريق إلى البلدة، ووقوعه في قبضة الشبّيحة الذين لم يدّخروا جهداً في التنكيل بأعضائه، وتشليحهم لهم، وسطوهم على بعض مقتنياتهم، والتلاعب بهم، ثمّ وصولاً إلى البلدة والسخرية من الدور الثقافيّ المزعوم والسويّة الأدبية المتدنّية التي هم عليها، مع الإشارة إلى تقزيم الثقافة والأدب والنظر إليهما كشؤون سخيفة من السلطة والجهلة من أتباعها وشبيحتها ومخابراتها سواء بسواء.
يلتقط حدّاد الخلافات الناشئة بين أبناء الطائفة أنفسهم، والدعوات التي بدأت تصدر من قبل بعضهم، والتململ الذي يبدأ بالاجتياح، والسؤال عن التوريطة التي ورّطهم بها النظام في مسعاه للمحافظة على نفسه، وتقديمه أبناءهم قرابين على مذبح سلطته الدمويّة العنفيّة القمعيّة.
يكون الشاعر مأمون مرسال الروائيّ لكشف النقاب عن الصراع الديني المحتدم بين أجيال من الطائفة العلويّة، وكيف أنّ الانقسام بات سمة ظاهرة، حيث هناك فئة من الضبّاط المتقاعدين الكبار الذين توجّهوا إلى التديّن بعد ارتهانهم للفراغ والخواء، ولاسيّما أنّهم كانوا قد اعتادوا السلطة والتسلّط والقيادة، يكون التشيّخ سبيلاً من سبلهم الجديدة للعودة إلى الواجهة والصدارة، تنشأ حركة الضباط المشايخ، ولافتقارهم إلى العلم والثقافة والدهاء يستعينون بأستاذ مثقّف يضعونه مستشاراً لهم، يكون المستشار جامع الهوامش الخطير الذي يبتدع الشعارات ويؤمّن التغطية الثقافيّة ويسدّ النقص الفظيع في ثقافة الضبّاط الدينية والتاريخية.
يلفت إلى كيفية استغلال كلّ طرف للآخر في عملية التحايل والتوظيف، الضبّاط المشايخ يستغلّون جامع الهوامش لتهيئة أرضيّة مقنعة لدعوتهم، وفي المقابل يستغلّهم المستشار لتحقيق مآربه بسلطة ونفوذ حلم كثيراً بهما، ويجد أنّ القوّة من حقّه لامتلاكه العقل والمنطق والعلم. ويختار الضبّاط المشايخ لدعوتهم توصيفات تستقي من إرث النظام البائد “التصحيح” ما يثير حفيظة المخابرات عليهم.
تكون هناك فئة أخرى من الشباب المتمرّدين، يقودهم شابّ اسمه كريم، يقود حركته الدينية المختلقة المناهضة للضباط المشايخ، يسمي دعوته “تصحيح التصحيح”، وكأنه يردّ على تهافتٍ بتهافت مناقض، ويكون متبحّراً في الثقافة والتاريخ والأدب، لا يعدم الحجج للمماحكة والإقناع، يكون مؤثراً في حشود تتبعه، ما يزيد الشقاق بين أبناء البلدة المنقلبة على نفسها واستقرارها المزعوم.
ينهض مأمون بدور المستكشف لخفايا الصراع، المخمّن لتداعياته وتأثيراته المحتملة، ولاسيّما أنّه يستعر في وكر من أوكار النظام، ويمكن أن يشكّل بداية انقلاب عليه، يكون استهلالها بالتشاطر ومزاعم الاجتهاد في المذهب والدين، وبعث حركة دينية تأخذ من الأديان والمذاهب كلها وتقدّم نفسها على أنّها نموذج للتعايش، تنسف الأديان وتدّعم تأسيس وابتداع دين للجميع، ويكون في ذلك نسفاً لخطوط النظام الحمر المتمثّلة في عدم إرباك التهدئة المفروضة على خزّاناته البشريّة، وامتصاص النقمة المبطنة جرّاء تقاطر توابيت قتلاه إلى أهلهم هناك.
يتيه الشاعر الحائر بين الحبيبة المسيحية الغادرة، يقع فريسة التقاليد والأعراف التي تصبح قيوداً تعكّر حياة الناس، ويقضي عليه الولاء والطاعة لذهنيات الطوائف السائدة والمتحكّمة، والارتهان للسلط المكرّسة التي أضفيت عليها القداسة بمرور الوقت.
ينوّه حدّاد إلى تحويل البلد إلى أماكن ومناطق نفوذ بين الشبيحة والمخابرات، وخروج عصابات تابعة للنظام عن سيطرته وبدئها بالعمل لصالحها الخاصّ، وتعميم سياسة التعفيش المتمثّلة في إطلاق يد الشبيحة والجنود والعصابات الطائفيّة لنهب مناطق برمّتها ومعاقبة أهلها جرّاء تجرّئهم على الوقوف في وجه النظام، ومنح أتباعه فرصاً لتمويل أنفسهم وإجرامهم.
يلقي الروائيّ بعض الضوء على مأساة الاغتصاب التي تعرّض لها عدد من النساء على أيدي الشبيحة وعناصر المخابرات والعصابات الطائفيّة المحاربة مع النظام، وقذارة الممارسات الانتقامية الشائنة وبلوغ الأحقاد درجة يستحيل التسامح معها، أو توصيفها في سياق بعينه.
يختار صاحب “الضغينة والهوى” لأبطال روايته مصائر، منها فانتازية تلائم جنونها وضياعها، وأخرى واقعية تستقي من العنف وتصبّ في مستنقعه، يكون الإيداء بالمتخالفين والتنكيل بهم من قبل المخابرات، وذلك لإبراز أنّ النظام لا يرحم أحداً ممّن قد يتجرّأ عليه، وأنّه عادل في توزيعه عنفه وظلمه وإجرامه. وتكون نهاية المستشار جامع الهوامش دراميّة، تنهار عليه كتبه، يكون الخيط الواصل الفاصل بين الهوامش التي انتقاها قاتلاً له، يكون انهيار عالمه تصويراً لانهيار مرتقب لذاك العالم الموازي له.
كأنّما ينسج حدّاد خلطة روائيّة من عدّة روايات انطلاقاً من أعمال روائيّة سابقة له، فالهمّ الثقافيّ والفساد المستنقعيّ الذي يسود عالم الصحافة والثقافة الذي صوّر جوانب منه في روايته “المترجم الخائن” حاضر بالموازاة مع الاشتغال على الجانب البوليسيّ الذي تكرّر لديه في عدد من الأعمال “عزف منفرد على البيانو”، “جنود الله”، وتراه يستكمل رحلة الثورة السوريّة التي بدأ بتأريخ مشاهد منها في روايته “السوريّون الأعداء”، والصراعات السياسيّة والتدميريّة التي روى جزءاً منها فيها وتوثيقه الروائيّ للحاضر الذي يكون امتداداً لأمس ملغوم دمويّ، ولغد يلوح محمّلاً بقنابل موقوتة مهيّئة للانفجار.
-
المصدر :
- المدن