كثير من الأدباء لم يكتبوا مذكراتهم، ولا سيرهم الشخصية. انتشرت هذه الموضة بعد “اعترافات” جان جاك روسو، حينها كان في جرأتها جاذبية، استمالت الأدباء إلى مجاراتها، إذ في السيرة مجال لتعرية الذات، وأيضاً لتضخيمها… كان التعويض مجزياً، وإن كان إزاء قرّاء يمحضونهم الإعجاب أو الاستنكار، أما الاعتراف أمام الكاهن، فيمنحهم الغفران. من بحاجة إلى الغفران؟ كان ذاك عصر التخفف من الروحانيات، والتنكر للأديان، فاستمرأوا كتابة ما فعلوه وما لم يفعلوه.

حققت السيرة الشخصية لاسيما في النصف الثاني من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي رواجاً كبيراً، دفع طائفة كبيرة من الكتّاب إلى التخصص في كتابة سير العظماء والمشهورين من رجال السياسة والأدب والعلم وشخصيات عامة كانت مشهورة في زمنها، وجنرالات في ميادين القتال، ورؤساء وقادة صنعوا التاريخ. أتاحت للقرّاء إضافة إلى الاطلاع على مآثرهم، التلصص على حيواتهم الخاصة، لاسيما تلك التي دارت في مخادع نساء جميلات وطَموحات، أسهمن أيضاً بصناعة التاريخ بطرائقهن الممتعة، بدليل الحجة الأكثر شيوعاً وهي: أن وراء كل رجل عظيم امرأة، ولو كانت تدفعه نحو الجحيم. تكفل هذا الجانب باستعراض غزواتهم العاطفية، والتشهير بنزواتهم الجنسية، فحفلت بالكثير من الإثارة والتشويق، حتى باتت السيرة كأنها صنعت خصيصاً لهذا النوع من الكشوف.

إذا كان للسيرة الذاتية فضل إضافي، عدا التعريف بصاحبها، فهو تبديد الأساطير حول أمجادهم، وإزالة العظمة المتوهمة عنهم، ووضع انتصاراتهم في مكانها، فلم تخل من التشكيك في إنجازاتهم. وارتدوا أشخاصاً عاديين، لديهم أخطاؤهم المروعة وخطاياهم التي لا تغتفر، يعانون مثلنا من عادات تافهة ورهابات ومخاوف، لا أحد بريء منها.

استهوت السير الذاتية القرّاء من شتى المشارب. لم تعد مقتصرة على الساسة والأدباء والمفكرين، مؤسسة على أن لهؤلاء حياة معتبرة، وغيرهم لا حياة لهم تستحق الذكر، إذ لا أعمال جليلة ولا خطايا مجلجلة. غير أنه مع الزمن وظهور النزعات الفردية ودخول العوام إلى التاريخ، ستغوي السيرة أصحاب المهن الأخرى لسرد حكاياتهم أيضاً، إذ لهم حيواتهم التي تسترعي الاهتمام، فأصبح للعاملين في الفن سيرهم الذاتية، وللعشق والعشاق سيرهم العابثة، وسوف تتدرج السيرة وتنزل إلى الشارع وتخسر بعضاً من رصانتها، لحساب حيويتها وغرابتها وهامشيتها، ويصبح هناك نصيب كبير للمهن الأخرى، فأصبح للرياضين والطباخين والمجرمين والخدم وبنات الهوى… حصّة فيها.

غير أن الصحافيين هم الذين سيقدمون خدمة للسيرة كانت تفتقدها، فالصحافة التي خاضت غمار الثورات والحروب والانقلابات والرحلات ومخاطر اقتحام مناطق نائية ومجتمعات مجهولة وبيئات قاحلة… أنجزوا ما سمّي بالسبق الصحافي، استفادت منه السيرة، ليس بالذهاب إلى هذه المناطق والأصقاع، بل باستغلال المنافسة، بالتسابق نحو الأكثر إثارة، فوجدت السيرة بغيتها، لتنحو غالبيتها إلى هذا المنوال، تتنافس وتتسابق، إلى تدمير التابوهات وتعرية الذات والإيغال في الاستعراض، حتى لو لم تخل من الدناءة، إذ في الحقارة والوضاعة كشف لانحطاط البشر، وأحياناً هو المقصودة بالذات، غير أن التجارب الجنسية هي التي كسبت قصب السبق، وحطمت الكثير من الحواجز، والكثير من دور النشر تتعيش عليها إذ تعتمد على قرّاء لا يملّون هذه الاقتحامات التي تزين لهم جنة الجسد، ولذائذها في التنويع، ما دام الخيال رائدها. ارتدت على كتابها وكاتباتها بشهرة بذيئة ووفرة في العائد المادي.

السيرة، لم تعد وفية للناس ولا للحقيقة، أمست منقادة لآليات السوق والتسوق، ففي أزمة البراءة كان في منتهى البراءة، وفي أزمنة الفضيحة، أوغلت في الفحش، وفي أزمنة الخيانة، كانت الأكثر خيانة… خانت نفسها والقارئ الباحث في السيرة، عن أناس لم تذهب حياتهم سدى، يحرضونه على العيش في زمن يفتقد إلى المعنى.