حسب الإحصاءات التي طاولت العقد الأخير، تفوّقت مبيعات كتب السيرة الذاتية على الرواية، فالخيال ليس من مميّزات الرواية وحدها، ولم يعد يُنقذها من المنافسة والمزاحمة في سوق القراءة، بالرغم من الدفق الروائي في العالم. فالسيرة الذاتية لا تعتمد على الخيال فقط، بقدر تحرّيها الصدق والتزام الواقع؛ هذا ما أصبح أغلب القرّاء يهتمّون به ويسعون إليه. الإحساس بأنهم يتعرّفون إلى إنسان سمعوا عن أهمّيته، أو مآثره، أو يعرفونه معرفة جزئية، ما يدفعهم إلى محاولة التعرّف إلى المزيد من حياته، من خلال سيرته، ما يُحيل القارئ أيضاً إلى العصر الذي عاشه، وطبيعة العلاقات الاجتماعية والصراعات السياسية فيه.
طاولت السيرة حياة المشاهير، أمثال تولستوي ودوستويفسكي وبلزاك، وتناولتها ــ حسب الزعم ــ بحيادية، وكشفت عن حقائق عنهم متداولة أو غير متداولة. كان وراء إقبال القرّاء عليها، أنها تُحاكي الرواية، فهي تُكتب بأسلوب روائي، رغم أنها واقعية، لكن مع المجازفة في الاعتماد على الخيال. وهي تُكتب بالاستناد إلى مراجع موثّقة، مثل الرسائل والمذكّرات وغيرها، ولا ضمانة من ظهور حقائق أُخرى مع الزمن، لذلك قد تتناول الكاتبَ أكثرُ من سيرة، ربما العشرات لبعض الشخصيات التي تثير الكثير من الفضول، مثل شكسبير وفرويد وكافكا ونيتشه.
وأصبح كثيراً ما يُشار إليها بأنها سيرة روائية، وهو وصف مَدين للفرنسي أندريه موروا، الذي عرفناه في العربية من مؤلّفاته وكان أغلبها سيَراً ذاتية صدرت منتصف القرن الماضي، مثل “شللي” و”بايرون” و”بلزاك” و”جورج ساند” و”حياة دزرائيلي” و”إدوارد الثالث” وغيرها. وكان هذا الوصف لاستحالة كتابة السيرة كما يجب أن تُكتب، أي سيرة موضوعية، تُكتب في سياق عصرها، لا خارجه، لذلك حملت ملامح الرواية، لئلّا يصيبها الجفاف، فهي ليست تقريراً كُتب في مخفر للشرطة.
ليست المشكلة في قيمة السيرة الروائية، ولا في تأثيرها من ناحية إن كانت مملّة أو مشوّقة، بل في نوعية تعامل القارئ معها. المشكلة الفعلية هي أنها قد تشغل القارئ عن قراءة أعمال المؤلّف صاحب السيرة، إذ تُقدّم صورة له تصبح البديل عن أعماله، بالظنّ أنها تُغني عنها، بدعوى أن حياته تصنع قيمة كتاباته الأدبية، مع أنّ كاتب السيرة لا يدرس مؤلّفات الكاتب، وإن كان ينشد التعويض عنها بتفاصيل حياته اليومية، والأكثر بأسراره الشخصية.
هذه الأسرار هي ما يشغل بال النقّاد والقرّاء، باعتبارها المفتاح إلى أدب الكاتب، ويأملون بأن تكون عظيمة ومثيرة، ممتعة وجذّابة، مع أنّها قد تكون صنيعة الخيال، وينصرفون تحت تأثيرها إلى شخصه. غير أن الأكثر طلباً واستساغةً هي السيَر الصفراء، التي تتناول الأسرار المشبوهة بالفضائح، ويفضّلونها على السيَر الإيجابية التي تتعرّض إلى مآثره. فتأتي على ذكر خياناته وعشيقاته أو انطوائيته وأنانيته، وربما سرقاته الأدبية إلى جانب شهرته، أي يجب أن تكون الشخصية بارزة كي يكون في كشف أسرارها إثارة.
أمّا إذا كان ذلك عادياً أو يدّعي الأهمية، فلا تعني سيرته شيئاً ذا بال، ولا يُخشى على هؤلاء الذين تمتلئ بهم الحياة، لا يظفرون بسيرة على الرغم من عدد الكتب التي كتبوها طالما أنها بلا أهمية، فلا يعود انحطاط أسرارهم لافتاً، ولو كانت مثالاً على الوضاعة. أمّا إذا كان شخصية عظيمة، فمهما تخفّى على حياته الشخصية فسوف ينقّبون فيها ولو اضطرّوا إلى اختلاق سلوكٍ منافٍ للأخلاق، أو المبالغة في تصرّفات ومواقف يُساء تأويلها، وربما لم يعشها.
وليس من الغرابة في أن يعتقد البعض أن ثمّة خدعة لا تخفى في السيرة الذاتية، من جانب أنّها تهدف إلى تحويل كلّ كتُب المؤلّف أو لوحاته وجهوده إلى كتاب أخير. باعتباره يكتب كإعلان عن نهايته، بل عن موته، ولو أنها لا تحمل دعوى لإنكار الحياة، وإنما إشارة إلى فصل الختام، ولا يجوز له إضافة عمل آخر، فقد قال كلّ شيء.