من المعتاد، تعرض السياسيين للسخرية والاتهامات بالكذب والخداع، هذا أبسط ما ينالهم من نقد، مع ما تتصف به تصرفاتهم بالدبلوماسية، وأحاديثهم باللطف والدماثة وحسن التخلص، ولا تخفي المراوغة في إنكار الحقائق بأنواعها السيئة والجيدة، بأسلوب لبق مع الكثير من المجاملة والدهاء. وليس من المستغرب، من يفاوض اليوم وعلى وجهه ابتسامة عريضة، ستدبر دولته مؤامرة غداً، وربما اغتيالاً، أو تستهدف بالقصف بلد الطرف الثاني في عطلة نهاية الأسبوع، وقد لا تبلغ الأمور، إسقاط نظام أو شن حرب، بل لا أكثر من مناوشات، وهي من عتاد اللغة الدبلوماسية على الأرض، وهي قتال هادئ جدا، يتستر على عواصف لن تتأخر.

تبلغ اللغة الدبلوماسية ذروتها في المحادثات السرية، تحت غطاء اقتصادي أو ثقافي أو بيئي، لدى عودة المبعوث إلى بلده، يرفع تقريراً لإدارته، يتعرض فيه إلى الطرف الآخر، وليكن رئيس دولة من العالم الثالث، فيصف تصرفاته بالمتخلفة، إن لم يكن بالهمجية، أو الجهل والتشدق بما لا يعرف، وقد لا يوفر ما سمعه عن جلافته، أو الشرب بإفراط، أو زير نساء، وربما قاتل دموي… ولا يتردد في محو حماقاته وخطاياه، بالتذكير بأنه رئيس دكتاتوري، والطبيعي أن يكون سافلاً. ويختم تقريره السري بتزكيته: التفاوض معه مجدٍ، سيستمع إلى نصائحنا، إنه بحاجة إلينا، ونحن بحاجة إليه، لديه أساليب ناجعة في إخضاع معارضيه بالقوة، غيره من السياسيين أردأ منه، إنه أفضل المتوفر.

هذا التقرير، كي لا نسيء فهمه، شهادة حسن سلوك معتبرة، تؤهل الدكتاتور ليصبح رجلا يمكن التعامل معه، موثوقاً به، عميل على مستوى رفيع، يستحق حماية دولة مثل أمريكا أو روسيا. في زماننا هذا، لا فرق بينهما، لم يعد من الضروري أن يكون الدكتاتور اشتراكياً أو رأسمالياً، أو وجود خلاف على أيديولوجيته، فليكن أي شيء، بعدما أصبحت الدولتان الأعظم أي شيء. مثلما المتحدثون باسم دولهما الكبرى والصغرى لا فرق بينهم، ولو تباين موقعهم، إن لم يتمتعوا بنظر ثاقب، يتميزون بالاعتداد بالنفس والعجرفة، وبقدر لا بأس به من الوقاحة، مثل الأمريكي بومبيو والروسي لافروف، ما المانع طالما يتحركان بين سياسيين من بطانه الدكتاتور السوري أو المصري، يكذبون بشكل مقزز في المحافل الدولية، ويتوسلون في اللقاءات المغلقة.

الممثلة الألمانية حنا شيغولا نصحت الممثلين الفاشلين غير الموهوبين، بالبحث عن عمل آخر، كالعمل في السياسة، كما أن ممثلة بورنو إيطالية، قالت بأنها لن تعمل في السياسة، لئلا تؤذي سمعتها. قد تبدو هذه التعليقات أشبه بالطرائف، المؤسف أنها لا تخلو من حقيقة، المدهش أن تأتي من ممثلات بهذه الدقة والحصافة، ما يوحي فعلاً بأن السياسيين ممثلون فاشلون من جانب، ومن جانب آخر يسيئون إلى سمعة التمثيل، لمجرد ارتباط عملهم بالقدرة على التمثيل… ولو كان التمثيل السياسي.

ترى من أين جاءت السمعة السيئة للسياسة والسياسيين؟

في إطلالة على الفكر السياسي، ندرك شيئاً لا ينبغي أن يفوتنا، ربما كانت السمعة السيئة تكمن في جذوره، فأفلاطون في كتابه “الجمهورية” كتب عن فن الحكم، ودعا إلى مجتمع يحكمه الفلاسفة، والغاية تحقيق العدل. أما تلميذه أرسطو، فكانت السياسة هي فن إدارة الدولة بأعلى شكل من الحكمة والحنكة، لتحقيق ما يبدو أنه العدالة. في العصور الوسطى، عندما حصل تداخل بين الدين والسياسة، كان الخلاف حول نسبة الروحانية والدنيوية في الدولة، أيهما الأنجع في تحقيق العدالة. ثم جاءت فلسفة التنوير والحداثة، وكان هوبز وجون لوك طلائع الحداثة السياسية. اعتقد هوبز بأن الانسان ذئب لأخيه الإنسان، وإذا لم يوجد ملك يحكم الشعب ويفرض عليه هيبته وسلطته فإن الناس يتحولون إلى وحوش، يأكلون بعضهم بعضا. ودعا إلى دولة قوية تفرض القانون على الجميع، وتمنع القوي من أن يأكل الضعيف، لماذا؟ بغية تحقيق العدالة. أما جون لوك فآمن بالقانون العقلاني، إنه وحده القادر على حكم البشر ويحمي حقهم في الحياة والملكية الخاصة والحرية، وطبعاً العدالة. إن الدولة التي تطبقه، تعتبر دولة ديمقراطية مسؤولة، بينما الدولة التي لا تطبقه دولة تعسفية استبدادية، دولة بلا قانون، أي دولة بلا عدالة. بينما بلور روسو نظريته العامة وكانت بما معناه، أن الناس كانوا متساوين، يعيشون في الغابات أحرارا وهانئين، وكان الفساد الأخلاقي والظلم ناتجين عن حالة التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، والسبب عدم توافر العدالة، وهذا مخالف للقانون الطبيعي، فالله خلق الناس أحرارا، ولكنهم في كل مكان مقيدون بالسلاسل والأغلال.

يبدو ما أوردناه عن الفكر السياسي بشكل مجتزأ، كأنه خارج عن الموضوع تماماً، أو موضوع مختلف، فالعدالة مثل الحرية التي كثيراً ما كتب عنها منظرو الأفكار، بيد أنها ليست موضوع السياسة في زماننا، لا تعنيها ولا تتعاطاها، ربما لأنها قديمة، أو أنها ضدها، نحا إليها المفكرون، وثرثر بها السياسيون، لمجرد الثرثرة، وإلا لم يكونوا سياسيين.

يمكن تفسير هذه السياسات المغايرة، بأن قادتنا وسياسيينا ليسوا من سلالة المفكرين، وإن جاء بعضهم من مدرجات الجامعة ومعترك السياسة، لكنهم لم يأتوا من آمال شعوبهم، ولا نضالاتها ولا طموحاتها، ولا آلامها…. فالقادة كمثال شائع، جاؤوا إن لم يكن من الانقلابات، فمن التوريث، كلاهما بالقوة، فلنتصور مقدار القمع والخداع والأكاذيب والسجون والإعدامات… والجرائم التي ارتكبوها ليبقوا عشرات السنين في السلطة… السلطة المطلقة.

هذه السياسة قد تحقق أي شيء؛ القتل، التدمير، النهب، الخراب، الظلم… لكن ليس العدالة ولا الحرية.