تصريح الرئيس بايدن الأخير حول مظاهرات الصين، ربما كان لافتاً، وهو أنه “لن يتكلم بالنيابة عن المتظاهرين في أرجاء العالم” ولم يخصص تصريحه للصينيين، بل جميع التظاهرات في العالم، ما يشمل إيران أيضاً، ولو فكر السوريون بالتظاهر، مع أنهم تعبوا منه فلن يتكلم بايدن بالنيابة عنهم، وهو أمر جيد، أي أنه لن يتخذ موقفا إلى جانبهم ولو كان بالكلام. أمر يريح بعضنا الذي ما زال يعتقد باللا حلّ الأميركي. لكن الأميركيين لا يغيبون عن العالم، فهم بحسب زعمهم مسؤولون عنه، لذلك سيتابع بايدن ما يجري عن كثب من دون التفكير بأي إجراء، فالحرب الأوكرانية استهلكت سياسات أميركا، مع أن السياسة لم تتدخل، وإنما شحنات الأسلحة والعقوبات غير المسبوقة.
مع هذا يجب ألا يفاجئنا هذا التصريح ولا أمثاله، وإن شكّل خسارة للمحتجين في مظاهرات الصين، ولم تكن سوى المطالبة بمزيد من الحريات لإنهاء تدابير الإغلاق المرتبطة بمكافحة كوفيد 19، مع أن العالم كله مرَّ بهذا التقييد طوال سنوات، قد نظـن أنها نوع من البطر الصيني المودرن، لكن عند التدقيق يلاحظ أن الحكومة الصينية تبالغ في إجراءاتها الطامحة إلى صفر كوفيد. حتى أصبح مجرد العثور على إصابات قليلة بفيروس كورونا، تفرض عملية إغلاق صارمة، يوضع الأفراد المشتبه بإصابتهم في الحجر الصحي، ويعزل الأقارب في بيوتهم، والعمال والموظفون في المرافق الحكومية، كما تغلق الشركات والمدارس والمتاجر عدا بائعي الطعام.
تبنى بايدن سياسة النأي حتى عن تلك المجاملات الفارغة لتظاهرات الشعوب. مدعياً أن “المتظاهرين يتحدثون بأنفسهم”، كنوع من ممارسة الحرية
قد يعتقد أنها إجراءات احتياطية، لكن لا يستهان بقسوتها، كلما ظهرت إصابة يعيش على هذه الحالة عشرات الملايين.. وتتصاعد إلى إجراءات مبالغ بها كإجبار العمال على النوم داخل المصانع حتى يتمكنوا من العمل في أثناء الحجر الصحي، لذلك سجلت حالات هرب جماعية من المصانع خوفا من إبقائهم في الداخل، كان أحدها مصانع “آيفون”، والأكثر غرابة هربُ المتسوقين في متجر “إيكيا” للمفروشات المنزلية، شقوا طريقهم بصعوبة عبر الأبواب للهرَب من محاولات احتجازهم داخل المتجر.
وإذا كان الأميركان نصحوا بشيء، فلم يزد عن تخفيف هذه الإجراءات من دون التنديد بها. تبنى بايدن سياسة النأي حتى عن تلك المجاملات الفارغة لتظاهرات الشعوب. مدّعياً أن “المتظاهرين يتحدثون بأنفسهم”، كنوع من ممارسة الحرية، ما يمنع التدخل، على أنها سياسة رشيدة، لا يمكن فهمها إلا بإدراك أنها صدرت بعد اجتماعه مع الرئيس الصيني شي جينبينغ على هامش قمة مجموعة العشرين، اجتماع استمر ثلاث ساعات، عبَّرا خلالها عن رغبتهما في إدارة الخلافات المتزايدة بين بلديهما، واستئناف المناقشات حول المجالات التي يمكن أن يتعاونا فيها، ويبدو أن التعاون يشمل أوكرانيا، وتأييد بعدم التشويش على الطموح الصيني بالقضاء على الكورونا بانتهاج أساليب تكاد تعيد الصين إلى حقبة ماو تسي تونغ.
في الواقع يبدو الموقف الأميركي سلسلة من مواقف سبقته، لم تكن أفضل بقدر ما كانت أسوأ من خلال موقفها من احتجاجات إيران من جراء مقتل شابة إيرانية كردية اعتقلت في طهران من قبل دورية الإرشاد المعروفة باسم “شرطة الأخلاق”، وتوفيت في المستشفى في ظروف غامضة. الاحتجاجات تقودها النساء في المعارضة إلى حد تحدّي سياسة الإجبار التي يمارسها نظام الملالي بفرض الحجاب بوصفه رمزاً أيديولوجياً، إذ لم يعد من الممكن تصوّر إيران من دون حجاب، وكأنها السياسة التي لا تستطيع التخلي عنها، لئلا تنكشف.
قد لا تكون السياسة الأميركية الأسوأ في العالم، إلا أنها الأوضح والأوقح كما عوّدنا ترامب، بينما السياسات الأوروبية التي ما تزال تراعي الخفاء، تبدو أفضل، لكن تجمعها مع الأميركية الهدف نفسه، والأكاذيب نفسها
تميز موقف بايدن بالصمت والمراوغة والإدانات الخجولة، ولا شك بكثير من التطمينات للإيرانيين لئلا يؤثر على سير مفاوضات الاتفاق النووي الذي لم يفتر خامنئي عن التلاعب به، عبر سياسة الشد والرخي. أما بايدن فما تعلمه من سلف سلفه أوباما، وكان نائبه، لم يعد كافيا، وهو المراقبة عن كثب، والمطالبة إذا تأزمت الأمور بشيء على نمط إصلاح سلوك النظام السوري، أو معالجة شبيهة بضربة الكيماوي التي فضحت سياسة أوباما الذي اعتمد التضليل لإنفاذ الاتفاق نفسه إلى حد لم يردع النظام السوري خشية عرقلة إيران للاتفاق. أما معزوفة الحرية والديمقراطية فإلى الجحيم، فالقوة الأعظم لا تهدر قواها ولا تهديداتها لئلا تتضرر مصالحها الضيقة.
قد لا تكون السياسة الأميركية الأسوأ في العالم، إلا أنها الأوضح والأوقح كما عودنا ترامب، بينما السياسات الأوروبية التي ما تزال تراعي الخفاء، تبدو أفضل، لكن تجمعها مع الأميركية الهدف نفسه، والأكاذيب نفسها، ما دامت تهتم بالعالم فلا بد من الإسهام بفعل شيء، لا يزيد عن الثرثرة من دون طائل، أما بقية الدول فلا تهتم، كما يظهر بجلاء في الأزمة السورية، فالخيار هو إغماض العينين عن الجرائم المرتكبة، ما دامت تقع على عاتق الروس والإيرانيين.
تتوضح مسارات السياسات الوصولية في العالم التي كانت تسير في الخفاء، بعدما أصبحت في العلن، أي بلا حياء، ولا تقصر في إعلان عجزها تداريها بتصريحات من هراء، لا تقول شيئا، إذ في الواقع ليست هناك سياسة، وإنما بلطجة دولية على علاقة بالاقتصاد، تنحو إلى الحفاظ على رفاهية العالم الغربي، بذريعة ألا يبرد في هذا الشتاء.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا