في محاولة لتفسير ما أصبح ملاحَظاً ولافتاً جدّاً في التدفّق الروائي السوري، خلال السنوات الأخيرة، أي صدور مئات الروايات التي تُطبع في تركيا ومصر وبيروت والأردن والخليج، لرجال ونساء بأعمار متفاوتة، بينهم شُبّان وشابّات بأعمار صغيرة، بدأوا نشاطهم الأدبي بكتابة الرواية. وما يسترعي التعجّب أن أغلبهم يدفعون تكاليف الطباعة لقاء نشر رواياتهم، يقتطعونها من عملهم في بلدان اللجوء. ما الذي يدفعهم إلى الكتابة والنشر؟ في الواقع، يجب ألّا نستغرب.
من جانب آخر، هناك مِن النقّاد والقرّاء مَن يُرفق تعجّبه مِن هذه الظاهرة بالاستخفاف بها، ولديه اتهامٌ سواء أكان مُحقّاً أم غير مُحقٍّ، أنها ليست بروايات، ولو كانت قد نُشرت تحت تصنيف رواية، أو ما يشبهها، لافتقادها إلى الفنّ الروائي.
في مواجهة هذا الاتهام، يمكن القول إن الفنّ الروائي ولو كان مطلوباً قطعاً، لا يحجب عنهم الحقّ في الكتابة. بالنظر، ودونما مبالغة على الإطلاق، أنهم يكتبون عن أنفسهم، عما عاشوه، وما عانوا منه، خلال سنوات الثورة والحرب، قد يكونون واجهوا الموت، أو موت أحبابهم، وربما فلذات أكبادهم تلفظ النزع الأخير في المشافي الميدانية، أو رأوا جناية عمرهم خراباً.
رغبة تقيّد ما يفيض به القلب في كتاب ضدّ النسيان
إن ما شاهدوه بعيونهم لا يقلّ عمّا قاسوه في دروب اللجوء، التي قطعوها مشياً على الأقدام، كي ينجوا بأنفسهم وعائلاتهم من قصف الطيران والبراميل المتفجّرة، أو خاضوا البحار ليصلوا إلى بلد أجنبي، ويجتازوا الحدود من بلد إلى آخر، مُطارَدين من مكان إلى آخر، متعرِّضين للجوع والبرد والقتل. ذلك أهون من البقاء والعيش في بلد تُستباح فيه كرامتهم، ويموتون تحت التعذيب، أو في مجزرة ما… لن نُطيل.
هناك أكثر من دافع يحرّضهم على الكتابة، ألّا ينسوا مدنهم وقراهم وبيوتهم، فقد تركوا وراءهم حياة، وبدأوا حياة أُخرى، تركوا زمناً ربما لن يعودوا إليه، لن يشفيهم الإحساس بالأمان بعدما فقدوا الأمل، أو إدراك أنهم انتصروا، لمجرّد بقائهم على قيد الحياة، وأن الكرامة شيءٌ ثمين. وقد تُشكّل استعادة الذكريات عزاءً لهم على أنهم غادروا بلدهم مُرغَمين، وأن يتذكّروا أنه ما زال هناك نظام مجرم ينهب أهلهم ويشرّدهم… وأن الحياة يجب الدفاع عنها، وتستحقّ أن تُعاش، ومهما كانت هزيمتهم، لكنهم صارعوا نظاماً شرساً.
هؤلاء يختزنون الكثير من المآسي، ويحاولون التعبير عن آلامهم، ما تبثّه وسائل الإعلام عن معاناتهم لا يكفي، إنها الرغبة في إطلاق هذا الذي فاض به القلب، ربما يخفّف عنهم، لم يعد تسجيله في كتاب إلّا ليكون مضاداً للنسيان. أما من ناحية الفن الروائي، فالمآسي قد تخلقه أو تستدعيه. ولا ننسى أن أهوال الحروب كان لها تأثير على كثير من الكتّاب، وحفّزتهم على كتابة الرواية، وكانت الأقدر على رسم مشاعر البشر إزاء محنة الموت والرعب معاً. وهناك أمثلة كثيرة كإرنست هيمنغواي، وإريك ماريا ريمارك، وقسطنطين جورجيو، وأندريه مالرو، وآخرين.
في حملة نابليون العسكرية على روسيا، خسر الجيش ثلاثمئة وثمانين ألف جندي من شدّة ما عانوا من البرد والجوع، لم يتبقّ سوى سبعة وعشرين ألف جندي. كان هناك ضابط كتب من وسط موسكو المحترقة ما رآه وعانى منه: “شاهدتُ أشياء لا يستطيع كاتب قابع في بيته أن يرى مثلها في ألف سنة”، هذا الضابط أصبح الروائي ستاندال.
تصنع الرواية تجارب الحياة واضطراباتها، وليس المهارات الروائية فقط. فالكتابة ليست حكراً على أحد، خاصة في حدث يعني الملايين، ولدى كلّ فرد ما يقوله عنها، لا سيما وقد توفّرت له الحرية، فلِمَ لا يعبّر عمّا يريد قوله بكتابة رواية؟ هؤلاء لم يعد يعنيهم سوى قول الحقيقة، لا ذلك الزيف من هؤلاء الذين يعملون على تزوير الكارثة، لنقُل إنهم يدحضونها.