تعيش المنطقة أسوأ أحوالها، تعززها الفوضى الضاربة فيها، لا سيما سورية، البلد الذي يعاني ظلماً لم يسبق له مثيل في تاريخه الحديث، بل وتاريخ المنطقة. حرب يخوضها مع نفسه والآخرين، مع أنه كان متوافقاً معهما وفي خندق واحد، سواء عن قناعة أو بالترهيب، رغم تعدّد اللافتات المرفوعة: العروبة، المقاومة، الممانعة، الاشتراكية، الوحدة… دائما كان هناك ما يضحي من أجله، ويناضل في سبيله. هل كان مخدوعاً؟

هذه الحرب التي كانت من أجل الحرية والكرامة، باتت أشد عبثية من كثرة ما شهدت من تقلبات، وما جرى عليها وفيها من تدخلات وتداخلات وانتكاسات وارتكاسات، وتبادل أدوار. ترى أي فاصل كارثي لم يمرّ فيه السوريون؟ جبهات القتال امتدت إلى داخل المنازل الآمنة، مدافع الهاون تقصف المدنيين عن عمد، لا عن عدم دقة في التصويب. براميل المتفجرات تتساقط فوق العزّل من دون تمييز، وكأنها خصّصت لاستهداف النساء والأطفال.

المطلوب، عدم توفير باحات سلام، وتعميم البؤس والخوف والتشرّد، فأفراد الشعب سواسية في زمان الحرب، لا يجوز أن ينعم فريق بالأمان، وفريق يشكو من اللاأمان. لا يصحّ تجاور التعاسة والسعادة، ولا ما يفوق التعاسة، إلى جانب ما يشبه السعادة. ذهبت الحرب باليأس إلى حدوده القصوى. أما السعادة فنسبية، ربما كانت في الحصول على ربطة خبز، وهو مثال عن سعادة غاشمة، ما دامت لقمة العيش مصادرة. لا معيار صالحا للقياس عليه.

يدفع السوريون اليوم من جراء هذه الحرب أفدح الخسائر المجانية، فالقذائف لا تفرّق بين المتحاربين والمدنيين، المسلحين وغير المسلحين، هل للقنابل عيون؟ وكأن المشكلة في النظر. لا حاجز بين الموت والحياة، الفاصل مُحي بينهما، غدت الحياة أشدّ عناء من الموت، برنامج لا يستثني أحداً، الذين منهم يحصلون على ما يأكلونه بأثمان باهظة، والذين يعيشون في الخيام يتآكلهم المرض والوحل والبرد، يقتاتون بالنزر اليسير من المعونات. المجتمع الدولي يقوم بواجبه نحوهم، ويبرّر المماطلة بما يقدمه لهم من بطانيات وطعام ودواء… مع الأمل ب”جنيف 2″، ويرفع معنوياتهم، بمنعهم من اجتياز حدوده. ينسى العالم أن هؤلاء لم يلجأوا إليهم إلا لأنهم ملاحقون بالموت ومنكوبون حتى العظم.
تتفق عدة جهات، ليس أولها النظام ولا آخرها داعش، وما بينهما من دول عظمى أو كانت عظمى، لا على إحلال وقف لإطلاق النار، بل على إنهاء قسمة غير عادلة، بتحقيق التوازن في الضحايا، بين الريف وأحياء المدن، ليتشارك الشعب المآسي، فالحرب الطائشة ميزت بينهم، بينما الحرب الهادفة تحقق العدالة في توزيع الفجيعة، بترشيد القذائف نحو أهداف محققة، والتذرع بعشوائيتها، الازدحام متوفر، والنتائج مضمونة، ليس هناك أكثر عدالة من الموت، القبور تساوي بينهم.

ما يحققه الموت، لا يحققه أقل منه، إذ مهما كان شظف العيش، والابتلاء بفقدان الأبناء والآباء والأمهات، تستحيل المساواة، إذ وحدة القياس، مختلة إن لم تكن مخاتلة. التجربة تقول: من الممكن تسجيل تنويعات لا حصر لها للمصائب والأتراح، لكن تأثيراتها لا تقاس، إذ لكل فرد قدرة مختلفة على الاحتمال، كما أن الناس ينفد صبرهم، عند حدود تتباين من واحد لآخر. المشكلة أن الحرب تقع في دائرة العواطف، لولاها لكانت الفجائع محتملة. إذ على قلب الأب أن يكون من صوان ليتحمل رؤية أولاده يجوعون، أو يغافلهم النوم والتعب على قارعة الطريق، أوالتشرد في مساحات مفتوحة للقنص. العواطف ليست قضية رومانتيكية فقط، ولا في ذرف الدموع ، وإنما في الشعور بالقهر والمهانة والعجز، ما يذهب بنا إلى الكراهية العمياء، والحقد الدموي. إنها في انقلاب الانسان إلى قاتل، والإنسانية إلى أكذوبة.

المؤلم أن محدّدات الحل في المأساة السورية ليس الحق في الحرية ولا الديمقراطية، ولا أن الضمير هو الحكم أو الأخلاق أو المظالم. وإنما
التسلط والصراع على النفوذ وإرادات الهيمنة، الشواهد الكبرى على انحطاط العالم.

السوريون بشر يستحقون العيش بكرامة.